حرب “تصفير” عداد التاريخ..!
وائل محجوب
- يريد البعض تصوير تاريخ السودان وصراعه السياسي كأنما قد بدا في صبيحة ١٥ ابريل ٢٠٢٣م، وتجتهد الغرف الإعلامية الموجهة والتابعة لطرفي الحرب لحبس الناس في ذلك التصور، وإهالة التراب على كل وقائع التاريخ القريب الذي عاشه أهل البلاد حتى اندلاع الحرب، وهذا العمل الموجه الغرض منه واحد هو جر الناس للاصطفاف في حرب الموت والخراب والدمار الذي يحطم البلاد ومقدراتها، وطمر تاريخ حقبة الإنقاذ التي ثار ضدها الشعب، وإعادة تقديم مجرميها كحماة للوطن، ومحو تاريخ ثورة ديسمبر المخضب بدماء الشهداء والجرحى، وطمر المسؤولية الجنائية عن تلك الجرائم.
• والحقيقة التي لا سبيل للالتفاف عليها انه حتى تاريخ اندلاع الحرب، كان السودان يشهد صراعًا طاحنًا بين كافة القوى الثورية الساعية للحكم المدني الديمقراطي، في مواجهة تحالف سطا على السلطة بالانقلاب على ثورة ديسمبر، وارتكب كافة الجرائم للاستئثار بالسلطة، حيث تم قتل وتصفية ما يزيد عن ١٥٠ شابًا من شباب البلاد، وجرح أكثر من ٥ آلاف بينهم إصابات معيقة مدى الحياة، وتم إخفاء قسري لعشرات الحالات، وتلفيق اتهامات بحق آخرين، فما هي الجهات التي فعلت كل تلك الموبقات للبقاء على السلطة؟
• هم قادة الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة، والمليشيات التابعة لهم، وكتائب الظل والأجهزة الأمنية الرسمية والموازية، وزعماء العشائر الذين يساندونهم، وفلول النظام البائد الذين استفادوا منهم جميعًا واستغلوهم في طريقهم لاستعادة حكمهم المنقض عبر انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م المشؤوم.
• ومن سخرية القدر أن أركان هذا التحالف الانقلابي صاروا مجتمعين من يوزعون الألقاب خلال هذه الحرب، ويوزعون صكوك الوطنية والعمالة هم واتباعهم، ويزينون للناس باطل الحكم العسكري، ويتوعدون خصومهم حتى قبل أن تنتهي الحرب، بينما تتم ملاحقة كل القوى المدنية بالقتل والاعتقالات والحصار الدائم لمنسوبيها، في مناطق الحرب لدى معسكريها، فهذا هو جذر مشروعهما لما بعدها؛ البطش والتنكيل والقمع.
• هل هناك أي جهة من هذه الجهات تمثل مشروعًا للحق والخير، حتى يؤيدها الناس ويصطفوا معها ومن خلفها في حرب الدمار والخراب هذه؟ وهل يمكن للحرب مهما كانت خسائرنا الشخصية والعامة منها أن تعمي أبصارنا عمن أوصلوا البلاد لهذا الدرك السحيق من الدمار والخراب، ويمكن أن تصبح مسوغًا ومبررًا للاصطفاف خلف ذات الأيادي التي أثخنت صفوف الشعب قتلًا وترويعًا، وقطعت الطريق على الثورة تكريسًا لدولة القمع والاستبداد، وحماية لدولة الإنقاذ وعناصرها الفاسدة المفسدة، بعدما سلكت لذلك مسالك الحديد والنار.
• لقد دفع أهل السودان ثمنًا باهظًا جراء هذه الحرب، إذ فقدوا عشرات الآلاف من أبنائهم وأهلهم قتلًا وتصفية بدم بارد، وخسر ملايين السودانيين أموالهم وممتلكاتهم بسبب النهب المسلح والسلب الذي مارسته قوات الدعم السريع على نطاق واسع غير مسبوق، وحطمت البنيات التحتية جراء هجمات طيران الجيش وقصف الدعم السريع، وتعرض الآلاف لانتهاكات جسيمة بالأسر والاعتقالات الجزافية وما يصاحبها من تعذيب وإذلال، وما يزال الآلاف في عداد المفقودين. وشهدت الحرب حالات موثقة للاغتصاب والعنف الجنسي، مثلما تم إجبار على النزوح وهجر منازلهم، وهذه الفاتورة الباهظة يتحملها المدنيون، وما زالوا يتحملون نتائجها الكارثية على حياتهم. - إن القوى المدنية والمدنيين طرف أصيل في هذا الصراع والحرب، وهم لا يمكن أن يكونوا وسطاء أو تابعين أو منقادين لهذا الطرف أو ذاك، فالهدف الواضح والمعلن لأطراف الحرب هو اختطاف الدولة وتجييرها لمصلحتهم، ومهمتها في هذه الأوضاع الكارثية هو الانحياز للملايين من الشعب المشتتين ما بين نازح ولاجئ، وكشف الانتهاكات المروعة التي تشهدها هذه الحرب بحق المدنيين، وإدانتها ومحاصرة من يقومون بها بلا لجلجة، فذلك هو الطريق لوقفها وملاحقة المتورطين بها مستقبلًا، والتمسك بالعدالة والمحاسبة على كل جرائم الحرب، وإنهاء أي أدوار مستقبلية للجيش في السلطة والحكم، والتمسك بحل كل الحركات المسلحة والمليشيات وعلى رأسها الدعم السريع، مع الإصلاح الشامل للقوات المسلحة بما يستعيد قوميتها ويزيل عنها شبهات الانحياز والانتماءات السياسية، وإعداد تصورات شاملة وفي كل المجالات لما بعد الحرب، والتنسيق مع كل القوى والمنابر الإقليمية والدولية الساعية لوقف الحرب، هذا هو دور ومسؤولية القوى المدنية العاجل.
• وختامًا، لن تنتهي هذه الحرب ما لم يستعد الناس عقولهم وإنسانيتهم، ويعلو فوق خطابات الكراهية والأحقاد التي تكرس لاستمرار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وإحالتها لحرب إثنية وجهوية وقبلية، ويقطعوا الطريق على دعاة الخراب والدمار والكذب والتضليل، وينبذوهم ويعزلوهم ويرفضوا مخططاتهم، والتمسك الصارم بمبادئ العدالة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.حرب السودان، الجيش، الدعم السريع،