وحشة.. إظلام.. ستار: وجه الضحك المحظور

دفع الله حسين

طوال خمسة أعوام انصرمت قبل الحرب، عاش المسرح السوداني وحشة مؤلمة، ولم يستطع الفكاك من قبضة الصمت التي ألجمته طوال سنوات النظام البائد، رغم المقاومة الدؤوبة وصرخات الثورة والثوار الجهيرة التي أسهم المسرحيون أنفسهم في ترديدها أيام مواكبها العاتية، فعشية انتصار الثورة، وبدلًا من إشعال الأنوار في المسرح القومي وطرد حقب البؤس والظلام، تفاجأ المسرحيون بتحويله لثكنة عسكرية واحتلاله بالكامل بمظاهر ومناظر الوجود العسكري الكثيف لقوات الدعم السريع الذين نصبوا خيامهم كذلك في مسرح الفنون الشعبية المجاور ووجهوا فوهات مدرعاتهم صوب الإذاعة والتلفزيون.

منذ وقت طويل، ظل المسرح القومي بأمدرمان يعاني من مشكلات مزمنة في تصريف مياه الخريف ومهددًا بالانهيار في أية لحظة، وسط إظلام مهول وتجاهل قصدي من الدولة وغياب تام للعروض المسرحية وجفاف عن الحفلات والمهرجانات. وحين اندلعت الحرب لم تجد المليشيا صعوبات عسكرية كبيرة  في السيطرة واحتلال مباني الإذاعة والتلفزيون والمسرح، وتحويلها لمعتقل، أساسي وكبير، قدمت فيه صنوفًا من التعذيب الكريه بحق عاملين ومواطنين وأسرى، وحولتها من مبان يفترض أنها تبث الوعي والفن والجمال إلى منصات إطلاق عمليات عسكرية ومدفعيات ثقيلة، يقابلها الجيش بغارات مضادة من سلاح الطيران والمسيرات، حتى استردها بعد تخريب واسع تعرضت له من كلا الطرفين.

هجرت الحرب المسرحيون، كغالب السودانيين، إلى الولايات الأخرى والمهاجر في مصر والإمارات والسعودية وسلطنة عمان، وتبقى منهم القليل في الخرطوم المكلومة، يعانون ويلات الحرب ولا يجدون ما يسد الرمق ويبحث كثيرون منهم عن العلاج من مرض مزمن بدون جدوى، منهم الممثلة القديرة فائزة عمسيب وناهد حسن وعبدالرافع حسن بخيت والطيب شعراوي وسواهم كثر لم يغادروا بيوتهم.

ومواصلة لشغفهم لممارسة فن المسرح، رعم الحرب وظرف النزوح عكفت مجموعات من المسرحيين على تقديم “مسرح تفاعلي” في دور الإيواء ببورسودان وكسلا وعطبرة وعدد من الولايات الآمنة، وعروض لمسرح عرائس الأطفال، من بينهم المخرج ربيع يوسف، مع عدد من النجوم والمسرحيين وفنان العرائس هجو خليل.

وللنجاة ومواصلة العمل، ركب العديد من المسرحيين السودانيين سكة التهريب الخطرة وغامروا بالوصول إلى مصر، وبدعم من اتحاد الفنانين السودانيين قدم المخرج محمد عليش مسرحية “نون الفجوة” على خشبة مهرجان الإسكندرية المسرحي (مسرح بلا إنتاج)، في دورته الرابعة عشر، بمشاركة مجموعة من الفنانات المسرحيات، وفي حضور سوداني كبير. وشاركت الفنانة منى عبدالرحيم في “مسلسل الحشاشين” وظهرت ريان هاشم ضمن عمل مسرحي  بمسرح نقابة الصحفيين. وفي دول الخليج يتم عرض مسرحية “شخارم بخارم” لعوض شكسبير وأبوبكر فيصل، ويعكف المخرج الكبير محمد نعيم سعد لتقديم مسرحية “البراويز” من تأليف عمر الحاجة، وفي سلطنة عمان قدم عبدالخالق محمد عمر ومختار بخيت تجارب مسرح قصيرة، وقدم الفنان أبوزيد الهلالي عرضًا لمسرح الشخص الواحد بمدينة لندن، وتسنم المخرج عادل حربي لدوره نائبًا لرئيس اتحاد الفنانين العرب، وفاز الشاب محمد حسن طيارة بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للمينودراما.

وخلال فصول الحرب، خسر المسرحيون بعضًا من زملائهم، رحلوا دون وداع، منهم الفنان القدير نبيل متوكل، صاحب “برلمان النساء” الذي قدم 6200 عرضًا مسرحيًا خلال مسيرته الفنية طوال نصف قرن متصل، ولحق به العم عوض بابكر الموظف القديم بالمسرح القومي والممثلة الشابة زينب محمد (التكلة) والفنان الشاب أبو الدبش وعباس عوض جبريل الذي قضى إثر دانة وهو عائد إلى بيته في أمدرمان،  والمؤلف الكبير عبدالعظيم حمدنا الله بالقاهرة. 

يفهم الفنان المسرحي، محمد يوسف المهدي، أن الفن  لا يتطور مع أجواء الحروب والكوارث، فهو فعل الحياة والخير والحق، يناهض العنف بكل صوره ويعمل على إشاعة ثقافة السلام والتعايش الحياتي. يقول في حديث مع ” أفق جديد”:  “الحرب لعنة، تصيب الإنسان في صميم نفسه وجسده، وتنافي الفطرة الأولى لحرية البشر، باسداء العنف والقتل واغتصاب النساء وتهجير الناس ونزوحهم”. ويزيد: “نحن مواجهون الآن بحرب أخطبوطية أخرى، غير حرب البندقية، تشتعل بجنون، في ميدان الاجتماع السوداني والمحبة، يعلو خلالها صوت النعرات العنصرية وخطابات الإبادة الجماعية في مناطق الحرب والتخوين والتخويف والتصفية في المناطق الأخرى، مما يتسبب في شرخ نفسي جماعي وتشويه للإنسانية، فكل شيء، بما في ذلك المسرح والعقل، اعتلاه الصدأ والدم ومزقه الرصاص”.

زر الذهاب إلى الأعلى