في وداع هاشم صديق
..الذي استمد طاقته من تاريخ المثقف العضوي
صلاح شعيب
ودعت الساحة الإبداعية السودانية الشاعر الكبير هاشم صديق بكثير من الحزن بعد وفاته التي حدثت السبت الماضي بأبي ظبي، التي وصل إليها قبل العام الماضي قادماً من السودان. وكان خروجه الدراماتيكي من البلاد قد فاجأ، وأفجع، الأوساط الثقافية، ووسائل التواصل الاجتماعي، لإجلائه من على “حصان كارو” أقله من منزله في بانت إلى الثورة، ومنها غادر إلى بورتسودان بعون عدد من المهتمين بالعمل الإبداعي.
ولد الراحل في حي بانت، بمدينة أم درمان، وكان يفتخر بأن والده كان خضرجيًا، ويعظم كثيراً أمه التي هي آمنة بنت محمد طاهر، وتربطه علاقات مصاهرة وقرابة مع عدد من الأسر الأمدرمانية بينما تعود جذور والده إلى منطقة الشايقية.
تميز هاشم صديق بكونه يمتلك قدرات إبداعية متعددة وظفها للتعبير عن ولائه للشعب السوداني، وبحثه عن وطن يعتمد على الديموقراطية كوسيلة للتداول السلمي، وبسط الحرية. وقد عرفته الساحة الثقافية أولاً شاعرا، ثم كاتباً مسرحياً، ودرامياً، ومقدم برامج تلفزيونية وإذاعية، وناقداً أسهم في الصحافة الثقافية والفنية. فضلًا عن ذلك فقد غدا بعد تخرجه في المعهد العالي للموسيقى والمسرح أكاديمياً ضليعاً، إذ خرج العديد من الأجيال المتخصصة في المسرح، وذلك من خلال تدريسه لمواد التمثيل والنقد في هذه المؤسسة الأكاديمية الرائدة في البلاد.
ولكن هاشم صديق أنهى علاقته بالتدريس بعد تقديم الاستقالة لعميدها الراحل أحمد عبد العال، وذلك احتجاجاً على مضايقات قال إنه عانى منها بعد خلاف مع العميد حول تغيبه لعدة أسابيع في إجازته التي قضاها في الإمارات.
وكان الراحل قد فضل عدم النزوح بعد معايشته بدايات الحرب الدائرة الآن بين الجيش والدعم السريع، وكادت طلقة نارية تودي بحياته بعد أن اخترقت جدار غرفة في منزله بأمدرمان. وتعد تلك الحادثة من الأسباب الأساسية التي جعلته ينزح إلى الثورة بأمدرمان ثم بورتسودان، ومن وهناك تكرمت شركة تاركو للطيران بحمله عبر سفريتها لأبي ظبي، وكذلك أعلنت تحملها طباعة المجموعة الشعرية الكاملة له تكريماً لدوره الثقافي الرائد كما قالت. وقد أقيم قبل أشهر قليلة في الإمارات احتفال لتدشين توزيع المجموعة حضره لفيف من السودانيين المقيمين في أبي ظبي.
والمعروف أن هاشم صديق بدأ في كتابة الشعر حين لم يتجاوز سن الثامنة عشرة، وقد كرّمه وزير الثقافة والإعلام عبد الماجد أبو حسبو عقب ثورة أكتوبر لكتابته نص “الملحمة” الذي لحنه الراحل محمد الأمين. وشكل ذلك النص الممجد للثورة التي أطاحت بنظام الفريق عبود (1958-1964) بداية لتعاون فني ممتد بين الراحلين أثمر عن عدة أعمال من بينها أغنيات “حروف اسمك” و”همسة شوق” و”خمسة سنين” وأعمال أخرى.
لاحقًا شكل هاشم صديق ثنائية مثمرة مع الفنان أبو عركي البخيت الذي غنى من نصوصه “أذن الآذان” و”اضحكي” و”كنت جالس في أريكة” و”أمونة يا خرطوم”، بجانب ذلك قدم أبو عركي الموسيقى التصويرية لأعماله الإذاعية والتلفزيونية. ومن أبرز أعماله الشعرية المغناة قدم له الفنان سيد خليفة “النهاية”، وصلاح بن البادية “يا جنى”، ومصطفى سيد أحمد “حاجة فيك”، وعبد القادر سالم “ودعتين”، وكذلك قدمت له عقد الجلاد “المدينة”. ولكن الراحل دخل في خصام مع جميع الفنانين الذين تعاون معهم، وطالبهم بعدم تريد أغنياته نتيجة خلاف حول حقوقه المادية إزاء أداء الفنانين تلك الأغنيات جماهيرياً، وفيما بعد شكلت تلك السابقة عاملاً لإجازة حقوق شعراء الأغنية.
بجانب دوره في رفد الشعر السوداني العامي والفصيح بالرصانة، والحداثة، وربطه بالقضية الوطنية، والمواقف المناوئة للاستبداد، قدم هاشم صديق عدداً من الأعمال المسرحية والإذاعية والتلفزيونية من ضمنها “قطار الهم” و”مسلسل طائر الشفق الغريب” و”الخروج عن النهر” و”أحلام الزمان” و”أجراس الماضي”. على أن بعض النقاد الدراميين يعد مسرحية “نبتة حبيبتي” التي قدمها الراحل في النصف الأول من عقد السبعينيات بأنها من أكثر الأعمال المسرحية رواجاً في تلك الفترة، وكذلك يرون أنها تمثل مرحلة فارقة في مسار تطور العمل المسرحي في السودان.
وقد أثارت المسرحية جدلًا أثناء عرضها نتيجة لما رأته السلطة المايوية بان المضمون يستهدف النظام السياسي، ولاحقاً قال مخرجها الأستاذ مكي سنادة بأن الرئيس الأسبق جعفر نميري الذي كان يتولى السلطة آنذاك قد حضر عرضاً للمسرحية متخفياً، بجانب مسؤولين من نظامه الديكتاتوري. وبرغم ذلك مُنحت “نبتة حبيبتي” جائزة النص الأفضل للموسم المسرحي عام 1973م – 1974.
واجه الراحل هاشم صديق مضايقات سياسية، وأمنية، من سلطات نظامي مايو، والإنقاذ، نتيجة لمواقفه ضد الأنظمة الديكتاتورية، وتصنيفه اليساري الأقرب للحزب الشيوعي. وقد حظرت مايو مسلسل “الحراز والمطر” و”تم اعتقاله عند بثه لفترة شهر إبان حكومة نميري عام 1979، ومسلسل “الحاجز” في عام 1984م الذي تم إيقاف بثه أولًا ثم قُصَت منه أجزاء من قبل الرقابة على الإعلام، وبرنامج “دراما 90 – 1993م” الذي تم إيقافه من قبل أجهزة السلطة. على ان الراحل حائز على جائزة الدولة لتقديمه “أحلام الزمان” الذي عد بأنه أحسن نص مسرحي للموسم المسرحي 1972 – 1973.
أصدر هاشم صديق عدة دواوين شعرية من بينها كلام للحلوة، والزمن والرحلة، وجواب مسجل للبد، وأذن الآذآن، والوجع الخرافي، والغريب والبحر، واجترار، وهذا المساء، وميلاد، وانتظري، وأنا شُفت يا بت في المنام، علي باب الخروج، وكذلك المجموعة الشعرية الكاملة الأولى.
ترافق رحيل هاشم صديق مع وفاة عدد من المقربين اليه من المبدعين الكبار عقب الحرب في بلاده. فقد رحل صديقيه الفنان محمد الأمين والكاتب كمال الجزولي، كما أن وفاة الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم أضافت حزنًا على ما هو عليه من حزن لتعثر أحلامه دون التحقق، وذلك نتيجة لما خلفه الذين أشعلوا الحرب من ألم على قلبه المرهف:
مما جيتو اتباع الشرف في السوق
عكّرتو البحر بالغم.. وكتْلتو العباد بالهم
وسطرتو الظلم بالدم.. رقّيتو الرمم لي فوق
زرزرتو الرقاب بالطوق.. ولغيتو الخجل والذوق
هاشم صديق، الشعر السوداني، ملحمة أكتوبر، الدراما السودانية