“توم” في بورتسودان بلا أنياب.. وفيتو روسيا يبدد الحلم بـ”حماية المدنيين”
مبعوث الوعود والتنازلات
مبعوث الوعود والتنازلات
شوقي عبد العظيم
هبوط طائرة المبعوث الأمريكي إلى السودان توم بيرييلو في مطار بورتسودان اليوم الاثنين، لم يكن بالأمر السهل لا من الناحية السياسية ولا حتى الإجرائية، فالرجل بعد أن قدم تنازلًا جديدًا وربما تنازلًا أخيرًا لصالح قيادات الجيش في بورتسودان تمثل في قبوله لقاء القائد العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان داخل مدينة بورتسودان بعد أن كان يرغب في أن يكون اللقاء في مطار بورتسودان، واجهت طائرة فريق حمايته تعقيدات إجراءئية عديدة كادت تعصف بالزيارة.
اتجاه معاكس
ولا شك أن الأحداث تسير في اتجاه معاكس لأمنيات وطموحات المبعوث توم الذي افترع تحركاته في بورتسودان بلقاء وزير الخارجية المعين حديثًا علي يوسف، بدءًا من فوز ترامب والإطاحة بحزبه إلى الفيتو الروسي الذي استخدم ضد مشروع تقدمت به بريطانيا وسيراليون إلى مجلس الأمن يتعلق بحماية المدنيين وإيصال المساعدات ووقف العدائيات. وتزامن الفيتو الروسي مع لقاء توم قائد الجيش البرهان وفي وسط دهشة الجميع أقدمت روسيا على هكذا خطوة غم أن مشاورات مكثفة تمت معها لتمرير القرار ومورست المشاورات ذاتها مع الصين التي صوتت لصالح القرار في حين اعترضته روسيا بعد إجماع ١٤ دولة في مجلس الأمن. ومن وجهة نظر محللين سياسيين يعود الموقف الروسي إلى خلافات مع الأروبيين والأمريكان في ملفات دولية تتجاوز التنافس على بسط النفوذ على السودان وليست بعيدة عنه ولكن المتفق عليه أن الموقف الروسي صعب مساعي المبعوث توم إن لم يكن بددها بشكل نهائي، وسينعكس بالضرورة على نشاط برييلو في السودان.
صحيفة انجازات
ومنذ تعيينه في 26 فبراير 2024 دخل توم بيرييلو في سباق مع الزمن لحل النزاع الدائر منذ 15 أبريل 2023 لأنه كان يعلم أن الوقت المسموح التحرك فيه لإنجاز المهمة لا يتجاوز 10 أشهر بعدها سيكون بقاءه خاضعًا لقرار الناخب الأمريكي وهذا ما حدث فعليًا إذ أن استغناء الإدارة الأمريكية الجديدة عن خدماته هو الأقرب للواقع وبالذات في النظر إلى صحيفة إنجازاته في تحقيق ما طلبه منه الرئيس جون بايدن.
في أول لقاء له مع صحفيين في القاهرة اجتهد بيرييلو للظهور بمظهر العارف والملم بالتعقيدات التي تكتنف مهمته الجديدة وإلى حد كبير ترك هذا الانطباع لدى المشاركين لولا أن إجابته على سؤال “ما هو الجديد في خطتك لم يقم به سابقوك” كانت مبعث قلق لأنه لم يدل بإجابة مفيدة وظهر كأنه سيبني خطة من خلال تلمس الأوضاع والاستماع إلى أطراف النزاع وخبراء وفئات من السودانيين وبعدها يشرع في وضع الخطة وهذا ما حدث فعليًا لذا تتبع توم المسار القديم المجرب من قبل الإدارات الأمريكية بخصوص السودان وعمد على مكافأة مشعلي الحرب بتقديم تنازلات لهما بينما اكتفى بإطلاق الوعود للقوى المدنية.
مفاوضات جنيف
النشاط الأبرز للمبعوث الأمريكي كان في مفاوضات جنيف وهي في الوقت ذاته أظهرت توم على أنه متعجل لأحداث اختراق كسبًا للوقت الذي يتآكل كما أنه أراد أن يحقق نصرًا ذاتيًا أو لحزبه في أجواء انتخابات بدت ساخنة وغير مضمونة لذا تمسك بنقل المفاوضات من منبر جدة إلى جنيف ولكنه عاد في إطار ضغط العسكريين من قادة الجيش عليه وتنازل وقال إن جنيف ستناقش تنفيذ اتفاق جدة دون أن يشرح لماذا جدة في جنيف وإن شئت الدقة مفاوضات جنيف كانت عالية الكلفة للمبعوث توم في ما يتعلق بالتنازلات وأولها تأجيل موعد المفاوضات التي كان مقررًا لها يوم 14 أغسطس بحجة أن اليوم يصادف عيد الجيش إلا أن مصادر قالت إن قادة الجيش غير راضين عن لقاء وفد الحكومة مع البعوث في جدة وهذا اللقاء أيضا مثل أحد التنازلات التي قدمها بيرييلو ويعود إلى طلب قادت الجيش بأن يكون الوفد باسم حكومة السودان بمشاركة مدنيين وذلك من باب سعيها للحصول على شرعية رفض توم في أول الأمر لجهة أن المفاوضات بين طرفي الحرب ولكنه عاد وقبل بلقاء وفد حكومي مدني برئاسة وزير المعادن بشير أبو نمو في محاولة لانجاح مفاوضات جنيف ولم تكتف قيادة الجيش بذلك بل طلبت الاعتراف بالفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيسا لمجلس السيادة إضافة إلى تسهيل مشاركته في قمة الأمم المتحدة وعلى طريقته قبل المبعوث بكل ذلك ولم يتوقع أن يكون هناك مزيد من الطلبات ومزيد من التعنت للدرجة التي يطلب تدخل وزير الخارجية الأمريكي انتوني بليكن الذي هاتف البرهان وتحدث معه بالهجة لا تخلو من حدة بأنهم من الضرورة مشاركتهم في المفاوضات وغير أن البرهان وحكومته عدوا المهاتفة نصرا يحسب لخطتهم القائمة على إجبار الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم أكبر قدر من التنازلات، وطلب المبعوث توم من الحكومة المصرية التدخل لدي حكومة البرهان واقناعها بالمشاركة في المفاوضات ولكن للأسف ذهبت كل هذه التنازلات أدراج الرياح وخابت آمال توم الذي كان يؤمل حتى الساعات الأخيرة بمشاركة وفد الجيش السوداني
قبل مفاوضات جنيف. وبعدها ظل توم يطلق الوعود للقوى المدنية كل ما التقى قادتها بأنهم بعد الوصول إلى اتفاق وقف العدائيات مستعدون لمناقشة المسار السياسي ودائما ما يعد بأن الأمر بات قريبا ثم يعود ويطلب منهم المشورة في الوصول إلى تفاهمات مع طرفي الحرب الجيش والدعم السريع وبعد جنيف أخذ يبشر بأن الاتفاق سينفذ وعلى الأقل ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية وتخفيف آثار الحرب على المدنيين السودانيين وهذا لم يحدث حتى اليوم وإن حدثت بعض التطورات الإيجابية ستجدها تمت من ضغوط جهات أخرى.
تنازلات ووعود
يوجه عدد من المراقبين انتقادات للطريقة التي تعامل بها المبعوث توم مع الملف فهي استمرت في تقديم الحوافز والتنازلات للمتقاتلين الذين تسببوا في شقاء المدنيين وعلى الرغم من أن تكليف الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جون بايدن إلى توم ينحصر في وقف العدائيات وإيصال المساعدات وتحقيق حلم السودانيين في الحرية والسلام والعدالة إلا أن جهود توم انصبت في البندين الأولين ولم يحقق فيهما نجاحا يذكر وأهمل البند الثالث وكان جهده فيه جهد المقل. ونافلة القول إن البند المتعلق بالحرية والسلام والعدالة الذي يرمز إلى الثورة كان يحتاج إلى تكثيف جهود المبعوث توم مع القوى المدنية المتفقة مع شعارات الثورة وفي مراجعة سريعة للفترة السابقة لن تجد له علاقات كبيرة مع قوى الثورة المدنية إلا لقاءات محدودة والأهم من ذلك بعض الذين كان يستشيرهم صوروا له أن دور الإسلاميين مهم في إيقاف الحرب لأنهم من أشعلوها والمنتظرين حصاد ثمارها ووقوفها يتطلب منحهم ضمانات بتوفير بعض ثمارها لهم مقابل سماحهم لمنسوبيهم في الجيش قبول التفاوض المفضي إلى وقف الحرب. وعندما سأله أحد الصحفيين هل جلست إلى قادة المؤتمر الوطني قال نعم وأضاف الصحفي “جلست مع من منهم؟ ” قال توم “لن أفصح عن الأسماء” وبرر ذلك بأن الأمور في طور التشاور.
المسافة صفر
المبعوث توم دبلوماسي يقاتل من المسافة صفر على حد تعبير الحروب لأن معركته بدأت رهينة بالانتخابات الأمريكية التي كان بينه وبينها 10 أشهر واليوم تبقى أسابيع فقط إن لم يكن أقل من ذلك وهو مدفوع بمسؤولية أكبر تتجاوز نجاحه الشخصي إلى حزبه الذي حظي بخسارة فادحة في الانتخابات الأمريكية أمام أعداء اثنين الجمهوريين وترامب لذلك من المتوقع أن يزيد من تنازلاته وهو في المسافة صفر التي أشرنا إليها لصالح المتحاربين الجيش والدعم السريع ومشعلي الحرب من عناصر نظام عمر البشير وخاصة بعد أن هبطت طائرته في مطار بورتسودان وتحدث إلى البرهان عن قرب.