قتلة محترفون
إعداد- فريق “أفق جديد”
“ليسوا بشراً، هم من طينة أخرى، قساة، حدَّ القسوة، قتلة محترفون، يتلذذون بالتعذيب، وإهانة الإنسان تطربهم حدَّ الثمالة، رأيتهم لا يؤثر فيهم استجداء طفلة لإبقاء والدها على قيد الحياة، ولا ترهبهم شيبة كبير، ولا تحن قلوبهم أو تلين أمام دموع أنثى ضعيفة لا حول لها ولا قوة”.. هكذا تصف إحدى الناجيات من جحيم قرى شرق الجزيرة لـ”أفق جديد” ما رأته هناك من أهوال وهي ممدّدة على فراشها في مدينة عطبرة التي وصلتها بعد مسيرة أيام معظمها على الأرجل لا تدري كيف وصلت إلى حيث هي، لأن ذاكرتها -بحسب ما تقول- محتشدة بمشاهد القتل والترويع التي شهدتها هناك.
نزحت “سليمى” -وهو اسم كودي اخترناه لها لدواعي سلامتها وبناءً على رغبتها- من الخرطوم حيث كانت تعيش منذ طفولتها، إلى مدينة ود مدني منذ الأيام الأولى للحرب واستقرت في حي الدباغة مستأجرة غرفة وصالة. وعند اجتياح ميليشيا الدعم السريع خرجت وبنتاها “أسيل وملاذ” واختارت قرية العيدج في شرق الجزيرة مُستقرَاً. وتمضي قائلة لم أكن أعرف شخصاً هناك ولكن بعد الهروب من مدني وجدنا أنفسنا في تلك القرية وهي للمدينة أقرب، فالمستوى المعيشي مقارنة بباقي قرى الجزيرة يعد جيداً، استقبلنا أهلها وكثير من النازحين إليها بترحاب كبير، وفَّروا لنا المسكن وأعانونا في المأكل والمشرب، مضت حياتنا اعتيادية. نعم، القلق موجود والترقب هو سيد الموقف خاصة بالنسبة لنا نحن القادمين من مناطق لسعتها الحرب.
بداية الرواية:
عندما وصلنا العيدج كانت تحت سيطرة الميليشيا التي انتشرت في شرق الجزيرة، غير أن احتكاك منسوبيها مع المواطنين كان قليلاً بعض الشيء… كنا نسمع عن بعض حوادث النهب، لمواطنين خرجوا في طلب الرزق أو سيارات قادمة إلى المنطقة… إضافة إلى بيوت يدخل إليها أفراد من الدعم السريع ويقومون بنهب الأموال والهواتف والذهب إن هو وجد.
قبل ثلاثة أشهر بدأت تحركات وسط شباب القرية، واتصالات مع بعض القرى المجاورة ومن ثم بدأ تسليح بعضهم سراً. وتجيب “سليمى” عندما سألناها من أين يأتي السلاح، بأنها لا تدري ولكن هذا ما جرى، وتضيف، بدأ المسلحون من شباب القرية في رفض دخول أفراد الدعم السريع إلى داخلها وحدثت عدة اشتباكات ومعارك بينهم، استطاعوا في بعضها هزيمة قوات الدعم السريع، بدأ التوتر يخيم على المنطقة وبات واضحاً أنها مقبلة على يوم أسود.
ويعضّد المواطن صديق محمد البلة رواية “سليمى” قائلاً لم نكن نتخيل في يوم ما أن يحدث في قريتنا ما حدث يوم الجمعة 8 نوفمبر، ما جرى لن يُمحى من ذاكرة أبنائنا الصغار.
تتار القرن:
ترويع وقتل واستباحة للقرية بشكل لم يحدثنا عنه حتى تاريخ التتار، لا يلتزمون بأية مواثيق أخلاقية غير أنهم بشر وليسوا ببشر فهم أناس بلا قلوب، القتل والتخريب والهمجية منهاجهم الوحيد، يقتلون السكان من دون التفرقة بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين مدني وعسكري.
ويمضي قائلاً لم يقصدوا سوى الخراب والإبادة والتهجير، يتسمون بطبيعة دموية يفوقون بها الحيوانات الشرسة، وكأن غايتهم التخريب والتدمير وليس الحديث عن محاربة الكيزان أو الفلول كما يدعون، وإلا ماذا في العيدج، أوسعونا سفكاً للدماء ونهباً للأموال بلا رحمة وبقلوبٍ كالحجارة بل هي أشد قسوة والعياذ بالله.
ويضيف البلة في روايته “هاجموا القرية المكتظة بأهلها والنازحين الذين احتموا بها بما لا يقل عن 35 عربة مدججة بالسلاح وأخذوا يطلقون النار في كل اتجاه يقتحمون المنازل بلا هدى، يخرجون الناس من منازلهم تحت تهديد السلاح جمعوا ما لا يقل عن 5 آلاف من النساء والرجال والأطفال في مبنى الخلوة، ومن يعترض كان نصيبه رصاصة في قلبه… قتلوا ما لا يقل عن عشرة من الرجال أمام أولادهم الصغار بدم بارد، كانت الرؤس تتفجر والقلوب تتطاير والدماء تنهمر على الجمع المحتشد… أحاطوا بنا من كل جانب أولاد صغار متحفّزون، بعضهم مخمور والآخر واضح أنه تحت تأثير المخدرات”.
وبشأن التسليح قال البلة، إن أمر التسليح فرضته ضرورة حماية الممتلكات والأنفس بعد أن تعرضت القرية لهجوم من الشفشافة وهو ما نصحنا به القائد في الدعم السريع سابقاً أبو عاقلة كيكل عندما اشتكينا له هجمات راكبي الدراجات النارية، بالنص كانت إجابته “سلحوا أولادكم البجيكم منهم أدوه البحر”.
ويساند الناطق الرسمي باسم مؤتمر الجزيرة -وهو كيان مدني تشكل بعد سيطرة قوات الدعم على الولاية في ديسمبر الماضي- حديث البلة بوصف الحديث عن وجود مسلحين في القرى التي اجتاحتها قوات الدعم السريع بأنه مجرد فرية وكذبة أطلقتها الميليشيا لتبرير النهب والسلب الذي مارسته ضد المواطنين. وقال هيثم الشريف لـ”أفق جديد”: “كل القرى التي تم تهجيرها وارتكاب جرائم في حق مواطنيها ليس بها أي مظهر من المظاهر العسكرية”، ويضيف نعم، بعض المواطنين دافعوا عن أموالهم وأعراضهم بأسلحة بدائية وأسلحة حماية شخصية، لكن ذلك لا يبرر أبداً الانتهاكات التي إرتكبتها الميليشيا، غير أن “سليمى” تقول إن المواجهات بين أبناء العيدج وقوات الدعم السريع استمرت لثلاثة أشهر مما دفعنا إلى التفكير في الخروج من القرية، ولكن كل الطرق كانت مغلقة، وتضيف -في أسىً- “هُوجمت القرية وأجبرنا على الفرار بملابسنا التي نرتديها”. وتروي “سليمى” لمحرر “أفق جديد” قائلة “مرينا بتجربة مريرة جداً، لن ننساها طيلة حياتنا هاجموا القرية صباح الجمعة، طاردوا الناس ضرباً وتهديداً ومن يحتج يطلق عليه الرصاص جمعوا كل سكان القرية في مقر الخلوة بالقرب من النيل، أطفالاً نساءً رجالاً مرضى ومقعدين”.
وتمضي قائلة: “مرت الساعات ثقيلة جداً لا ندري ما هو مصيرنا هل ستتم تصفيتنا… الرعب يتملّك الجميع… الأطفال يصرخون والأمهات يبكين. عند الساعة الثالثة ظهراً جاءت مجموعة منهم وأبلوغنا بحزم أنهم سيعودون عند الخامسة صباحاً إن وجدوا شخصاً في المكان سيقتلونه… حاول الرجال التحدث معهم وإثناءهم عن قرارهم بحجة أن من بين سكان القرية نساءً حُمّل ومسنين ومرضى، كل الذي فعلوه أطلقوا الرصاص على صدر كل من تحدث معهم، خرجنا جميعنا من القرية بحثاً عن الأمان لم نكن نملك شيئاً كلّ شيء تركناه خلفنا في المنازل التي بدأوا قبل خروجنا في نهبها، رأيناهم ينهبون كل شيء، الماعز الأبقار الضأن كل شيء كل شيء”.
وتمضي بصوت متهدّج “بدأنا رحلة النزوح مجدداً على الأرجل، أطفال في سن ثلاث وأربع سنوات، نساء في شهور حملهن الأخيرة، بعضهن وضعن مواليدهن تحت الشجر، البعض مشلولون محمولون على العناقريب مرضى… كل القرى التي مررنا بها الدعم السريع هجَّر أهلها، نجد بالقرية عدداً بسيطاً من الرجال… ثلاثة أيام بلياليها ونحن ماشين لا يمكن أن ننوم لأن المنطقة خلوية، البعض لدغته القارب، في اليوم الثاني من المسير وصلنا إلى قرية الحسيناب، وجدنا أهلها لا يزالون فيها جلسنا شربنا بعض الماء ولم نكمل راحتنا حتى وصل أفراد الدعم السريع وأمروا الناس بإخلاء القرية تحت تهديد السلاح، وانضم إلينا سكان قرية الحسيناب أصبح الآلاف من البشر يهيمون على ووجوههم. في اليوم الثالث وصلنا إلى منطقة قبل ود أبو صالح، وجدنا أن بعض أبناء القرية وفروا “بطاحات” التي يتم بها نقل البهائم، تم نقلنا بها إلى مسيد ود أبو صالح، ومن هناك تم نقلنا في رحلة لا تقل في بؤسها عن ما سبق إلى مدينة شندي، كل ما مررنا بنقطة للدعم السريع يتم إنزالنا وتفتيشنا وسؤالنا وإهانتنا لماذا لا نحمل مالاً أو ذهباً”.
انتهت رواية “سليمى” عن رحلتها من العيدج إلى شندي حيث انتقلت من شندي لعطبرة وهي تتلقى الآن العلاج هناك من حالة إجهاد وتسلّخ وورم في الأرجل، وروايتها لا تختلف عن كثير من الروايات التي استمعنا إليها لعدد كبير من النازحين الذين هجَّرهم الدعم السريع بعد أن وصلوا إلى مناطق مختلفة.
الإخضاع والسيطرة
ضابط منشق عن الدعم السريع تمكن من الفرار إلى دولة مجاورة، يقول لـ”أفق جديد” لتفسير الانتهاكات الواسعة والتهجير القسري الذي ارتكبته الميليشيا، إن هذه القوات تنقسم إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى وهي تعتبر النخبة والقوة الصلبة، وتتشكّل من الجنود والضباط الذين تدربوا وتأهلوا تأهيلاً جيداً وهذه تعدادها لا يزيد عن العشرين ألفاً، وهي قوة بسيطة وعادة لا ينتشر أفرادها في الطرقات وإنما تكون في ارتكازات محددة، وهي لا ترتكب انتهاكات إلا فيما ندر، الفئة الثانية وهي مجموعة الميليشيات التي انضمت إلى الدعم السريع بعد حرب 15 أبريل وفي ولاية الجزيرة، ويقودها القائد قجة وهي قوة مشكلة في أصلها من الحرامية وقطاع الطرق، وهدفها من المشاركة في الحرب هو النهب، والفئة الثالثة وهي الأخطر تضم مجموعات المستنفرَين، وتتشكّل من قوات “أمباغة” إلى جانب بعض أبناء الجزيرة، معظم أفراد هذه الفئة من متعاطي المخدرات ومن بينهم من تحركه أحقاد شخصية مكتومة في داخله لفترات طويلة إما لاضطهاد مجتمعي تعرض له أو لتفاوت طبقي أشعره بالظلم، مضاف إليها آخرون ضحايا التربية الخاطئة وهي تربية تمجيد من يحصل على المال دونما النظر إلى المصدر والكيفية التي حصل عليها به.
وأضاف الضابط المنشق “ما جرى في الجزيرة من انتهاكات مسؤول عنه بشكل مباشر القائد الملقب بـ”قجة” ومسؤوليته قطعاً لا تنفي مسؤولية قيادة الدعم السريع ممثلة في محمد حمدان دقلو وشقيقه عبد الرحيم”.