ندى أبوسن
تعددت ملفات حرب السودان الشائكة والمعقدة التي في معظمها تعد جرائم حرب ضد المدنين، بداية من قصف المنازل إلى القتل والتهجير والاغتصاب والقتل على الهوية والتجويع، كذلك أثرت الحرب على النساء والأطفال والنزوح المتكرر، وملف وقف الحرب نفسها وملفات أخرى عديدة ومعقدة وتحتاج جميعها إلى الدراسة والتحليل للوصول إلى الحلول التي تنقذ حياة المدنيين السودانيين وتخرج بهم إلى بر الأمان.
ولعل من أخطر هذه الملفات الاعتقال والاختفاء القسري، هذا الملف المنسي الذي لم يعط حقه من تسليط الضوء لما له من تداعيات كبيرة على عدد كبير من الناس كالمعتقلين وذويهم والمجتمع المحيط بهم. إلا أن جهات عدة حرصت منذ بداية الحرب على التستر على هذا الملف خاصة الجهات التي تتعامل بشكل مباشر مع جهة الاعتقال وأسر المعتقلين الذين يخشون خروج أي معلومة قد تعرقل خروج المعتقل وتتسبب في تهديد حياته داخل الحجز، وتعتبر جهة الاحتجاز أن أي محاولات للنشر في وسائل الإعلام من أسر المعتقلين هي محاولة للضغط عليها مما يترتب على ذلك المزيد من الشروط والتعنت.
ومنذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل في السودان تعرضت أعداد كبيرة من المدنيين للاعتقال والاختفاء القسري. قدرت هذه الأعداد بخمسين ألف معتقل،
كما قدر عدد مجهولي المصير الذين ما زالوا يواجهون الاختفاء القسري في السودان بأكثر من ثلاثين ألفا.
اعتمد المحصون لهذه الحالات على إحصائيات تقريبية عبر التسجيل من السوشل ميديا بالإضافة إلى الأعداد التقريبية التي يطلعهم عليها المفرج عنهم من داخل المعتقلات. هذا فيما يتعلق بالمعتقلين داخل سجون الدعم السريع، أما المعتقلون لدى الجيش فلا توجد إحصائية دقيقه لأعدادهم.
وبغياب دور قوات الشرطة والسجون منذ اندلاع القتال ازدادت تعقيدات أوضاع المعتقلين ما بين طريقة الاعتقال وما يصاحبها من عنف وانتهاكات وما بين الأوضاع داخل المعتقلات، إذ يعيش المعتقلون أوضاعا إنسانية بالغة السوء والتعقيد يحرم فيها المعتقل من أبسط حقوقه كالتواصل بمنع الزيارة عنه مما يجعله في عزلة تامة الأمر الذي يؤثر على صحته النفسية، كذلك عدم حصول المعتقلين على غذاء صحي يحفظ التوازان في الجسم إذ لا يوجد تنوع في الأطعمة التي يتناولها المعتقلون ويحتاجها جسم الإنسان وينحصر الطعام ما بين الأرز والعدس فقط ما يتسبب في فقدان جسم المعتقل للكثير من العناصر الغذائية اللازمة.
أيضا انعدام الأدوية خاصة أدوية الأمراض المزمنة وانعدام الأدوات الصحية كالصابون ومعجون الأسنان والملابس وقلة الحصة اليومية من مياه الشرب، إذ يوجد نقص حاد في المياه في معظم المعتقلات بسبب خراب البنى التحتية وغياب الخدمات جراء الحرب.
من جانب آخر عدم تمكن أسر المعتقلين من الحصول على أي معلومة عن أبنائهم داخل المعتقلات حيث لا توجد زيارات ولا حتى مجرد معلومة عن مكان المعتقل أو إذا ما كان حيا وميتا.
في الفترة ما بين شهري يوليو وأغسطس من هذا العام ٢٠٢٤ انتشرت أخبار عن وفاة عدد كبير من نزلاء سجن سوبا الذي يعتقل بداخله ثلاثة عشر ألف معتقل الأمر الذي دفع بقوات الدعم السريع للعمل على إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين من المرضى وكبار السن ومن الذين طالت مدة اعتقالهم، ومن هؤلاء للأسف من توفي بعد خروجه بأيام وهم في سن الشباب.
وكنت على صلة مع أسرتين لشابين توفيا خارج المعتقل بعد إطلاق سراحهما بأيام قليلة، وذكرت أسرة المعتقل مصطفى محمد المصطفى ٢٩ عاما بأن ابنها أحضر إلى منزل أسرته في الباقير وهو ممدد على عربة كارو وكان في حالة سيئة لا يقوى على الحركة ولا يستطيع مجرد الجلوس، وقد أخبرهم الطبيب الذي عاينه بأن ما يعانيه نتيجه للجوع. وتوفي مصطفى بعد الإفراج عنه بأربعة أيام. أما الثاني فهو الشاب فخري – ٢٦ عاما – الذي توفي بعد وصوله إلى الجزيرة بعدة أيام من خروجه من سجن سوبا. ويقول ذووه إنهم وجدوا عليه آثارا للتعذيب.
وأسباب الوفيات في أغلبها كانت بسبب نقص الغذاء الذي يقدم للمعتقلين مما يسبب أنيميا حادة تتسبب بدورها في تورم الجسم، إضافة إلى قلة حصة المياه اليومية التي تتسبب في أمراض الجهاز البولي والكلى مما يؤدي إلى الفشل الكلوى والوفاة. كما توفي بعض المعتقلين نتيجه للكوليرا.
وترفض قوات الدعم السريع تقديم أي معلومات عن المتوفين في سجونها. وتصل أخبار الوفيات عبر المفرج عنهم. وقدر عدد المتوفين في سجون الدعم السريع منذ اندلاع الحرب بآلاف الأشخاص.
كنت قد سألت شخصا قد أفرج عنه في نهاية شهر أكتوبر المنصرم عن عدد الوفيات في معتقل مبنى هيئة العمليات سيء السمعة بالرياض، وذكر لي إنه في خلال فترة وجوده بالمعتقل التي امتدت إلى أحد عشر شهرا توفي ٤٩ شخصا،
هذا بخلاف الوفيات التي يحتمل إنها حدثت في المعتقلات الأخرى.
وما يتوفر من معلومات في هذا الصدد تقدمه بعض الجهات غير الرسمية وبعض الأفراد الذين يحاولون مساعدة أسر المعتقلين في الحصول على المعلومات بالتواصل مع المفرج عنهم بعرض صور المعتقلين التي تنشرها الأسر عبر الوسائط على المفرج عنهم كما يتم التواصل مع بعض الجهات من الدعم السريع التي تعدهم على فترات بإطلاق سراح بعض المعتقلين. كما يقوم بعض رجالات الطرق الصوفية بالتوسط للإفراج عن بعض المعتقلين، وقد أفلحوا في إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين كمبادرة الشيخ إدريس أب وقرون، إذ نجحت المبادرة في التوصيل الآمن للمفرج عنهم من الشرطة والجيش بدلا عن الصليب الأحمر الدولي.
أما الجهات الرسمية فلا تبذل أي جهد لتبادل الأسرى من النظامين أو المطالبة بإطلاق سراح المدنيين الذين يعتقلون لمجرد الشك بأنهم تابعين لاستخبارات الجيش، ويزج بهم إلى معتقلات الدعم السريع دون أي دليل. ومثال للاعتقال التعسفي حالة المعتقل عصام محمد الأمين الذي توسطت جهات عديدة للإفراج عنه وجاء اسمه لعدة مرات في قائمة الصليب الأحمر الدولي للمطلوب الإفراج عنهم ولكن الدعم السريع ترفض الإفراج عنه وتشترط حضور الناظر ترك للإفراج عنه ظنا منها إن عصام محمد الأمين هو شقيق الناظر سيد محمد الأمين ترك للشبه بين الرجلين في الاسم والشكل بينما الحقيقة إن الرجلين تربطهما علاقة قربى بعيدة. ومؤخرا توفيت والدة عصام وهي مقهورة على فراق وحيدها.
كذلك حالة المفرج عنه محمد عادل المتخصص في ميكانيكا الديزل الذي احتجز بسبب تخصصه وأرغم على العمل لدى الدعم السريع لمدة عام كامل.
أما الجهة الوحيدة التي يتم الإبلاغ لديها الآن عن المعتقلين والمختفين قسريا في السودان فهي الصليب الأحمر الدولي الذي تنحصر صلاحياته فقط في حصر المعتقلين وتقديم قائمة بأسمائهم إلى جهة الاعتقال كما ينقل المفرج عنهم في حالة اتفاق الأطراف. ومؤخرا قامت إحدى مبادرات المفقودين وتقف من خلفها جنديتان مجهولتان نذرتا وقتهما وجهدهما من أجل المساعدة في إطلاق سراح الأسرى وتطمين أسرهم، وفضلتا عدم ذكر اسميهما حتى لا تتأثر مجهوداتهما في العمل على إطلاق سراح الأسرى ورفع الظلم عنهم بسبب النشر، وتحضران الآن لعمل فيديوهات وبوسترات تعرض صور الأسرى، وتطالب بالإفراج عنهم وتذكر الرأي العام المحلي والعالمي بقضية الأسرى والمختفين قسريا المنسية أو المقصود تجاهلها من بعض الجهات السياسية والإعلامية، كما تعمل المبادرة على تكوين تجمع للتحدث باسم أسر المعتقلين والمختفين قسريا للفت نظر المنظمات الدولية والجهات المعنية بحقوق الإنسان من أجل تحسين الأوضاع داخل المعتقلات وسد الفجوة الغذائية والصحية فيها والضغط للإفراج عن المعتقلين والمختفين قسريا.