“العبور الكبير” .. خسائر واسعة ونتائج دون الطموح
أفق جديد
60 يوماً تكملها غداً العملية التي أطلقت عليها القوات المسلحة مسمى “الانفتاح الثاني”، بينما سميت شعبياً بعدة أسماء “العبور الكبير” عملية “الكباري”… وغيرها من المسميات المتداولة. أُريدَ للعملية -التي استغرق الإعداد لها 6 أشهر- التمهيد للجيش كي يفرض تغييرات معتبرة على خارطة السيطرة الميدانية في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة.
وفي صبيحة 26 سبتمبر/أيلول الماضي، عبرت تشكيلات من الجيش جسري النيل الأبيض من وسط أم درمان إلى منطقة المقرن الواقعة غربي وسط العاصمة الخرطوم، حيث ارتكزت ونصبت دفاعاتها وبدأت بالزحف شرقاً بهدف الوصول إلى مقر القيادة العامة للجيش شرقي الخرطوم، بالتزامن مع قوات أخرى عبرت جسر الحلفايا الواقع في الجزء الشمالي من مدينة الخرطوم بحري، وكانت منطقة الحلفايا المتاخمة للجسر هي محور العملية البرية وأبرز تقدم حدث فيها، حيث تمكنت تشكيلات الجيش والقوات المتحالفة معه من السيطرة على حي الحلفايا ذائع الصيت، ومدّدت سيطرتها شمالاً على ضاحية الإزيرقاب، فضلاً عن إكمال سيطرتها على منطقتي الكدرو والدروشاب، حتى الفكي هاشم شمالاً.
وفي ذات التوقيت، نفذ الجيش انفتاحاً -أيضاً- في سلاح المهندسين بأم درمان، وفي منطقتي العيلفون وحطاب في شرق النيل، بجانب قوات الكدرو، بغرض السيطرة على مقرات وطرق استراتيجية وتفتيت تجمعات قوات الدعم السريع، وصاحبت تلك التحركات توقعات صدرت عن مصادر عسكرية عديدة باستمرار العملية أسابيع لاستكمال أهدافها بتحرير كامل العاصمة.
عملية تكتيكية
ويرى المستشار بالأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية اللواء معتصم عبد القادر الحسن، أن العملية العسكرية للجيش ضد قوات الدعم السريع “المتمردة” -بحسب وصفه- والتي ظهرت بعض نتائجها المعلنة والواضحة للعيان يوم 26 سبتمبر 2024م، وتمثلت في عبور الجيش من أم درمان إلى كلٍّ من الخرطوم وبحري، تأتي تنفيذاً لتكتيكات وعمليات جزئية محددة ضمن الخطة الاستراتيجية التي تتبعها القوات المسلحة منذ بداية الحرب.
ويضيف في حديثه لـ”أفق جديد”، هذه العملية من حيث التكتيك تأتي على عكس ما تتبعه الميليشيا التي تقوم بعمليات محدودة وتقليدية تستغل فيها كثافة النيران باستخدام الأسلحة النوعية من مضادات وراجمات ومدافع متحركة زودتها بها الجهات الداعمة، كما أنها تستخدم الفزع العشوائي الذى يشبه الحروب القديمة، مما يلحق بها خسائر بشرية كبيرة نتيجة للإندفاع غير المدروس والإفتقار لطرق وخطط الهجوم والدفاع والإنسحاب المنظم.
وعلى عكس ما يقوله اللواء معتصم تُظهر صور ملتقطة بالأقمار الإصطناعية لمنطقة المقرن التي شهدت -بحسب معلومات تحصلت عليها “أفق جديد” من عدة مصادر بعضها مفتوح- معارك عنيفة، وقتل فيها من الطرفين بحسب تقديرات خبراء عسكريين مئات الجنود، حيث يقول الكاتب علي أحمد في مقال منشور إنه أحصى بشكل شخصي ما لا يقل عن 26 ضابطاً من القوات المسلحة قتلوا في معركة العبور، مطلقاً عليها مسمى “العبور إلى القبور”، أظهرت الصور التي أُلتقطت يوم الإثنين الماضي 18 نوفمبر، خلو منطقة المقرن من التواجد العسكري. وبدراسة وتحليل الصور من قبل خبراء استعانت بهم “أفق جديد” فإن منطقة المقرن الآن لا تتواجد بها قوات عسكرية، وباستشارة خبراء عسكريين رجحوا تراجع الجيش إلى مدينة أم درمان، مكتفياً بنشر قناصة أعلى مباني السلاح الطبي وقصر الشباب والأطفال، إضافة إلى مقرِّ البرلمان. وتراجعت قوات الدعم السريع إلى منطقة السوق العربي مكتفية هي الأخرى بنشر قناصة أعلى برج الفاتح ومقر شركة زين، وبنك السودان.
ويقول عضو الوفد المفاوض والمسؤول في المكتب الإعلامي للدعم السريع نزار سيد أحمد، إن قوات الدعم السريع استطاعت أن تفشل عملية عبور الكباري في يومها الأول، وكبدت القوات التي حاولت عبور الجسور خسائر فادحة، مقراً في حديثه لـ”أفق جديد” بأن تقدماً محدوداً حدث في منطقة الحلفايا وحتى هذه تتم الآن استعادتها تدريجياً. وبدوره بقول اللواء معتصم إن القوات المسلحة لا تُقدم على أي شكل من أشكال العمل العسكري إلا بعد الدراسة العميقة والوافية لبيئة المعارك بعد جمع وتحليل المعلومات واتخاذ القرارات الملائمة قبل وأثناء وبعد المعارك.
ووفقاً لضابط في الجيش (حجب اسمه)، تمكنت التشكيلات في محور المقرن، من تحييد عدد من الأبراج والمباني العالية، التي كانت تستغلها قوات الدعم السريع كمنصات لقناصتها بعد أن دكتها عبر القصف المدفعي والقصف الجوي، ووصلت هذه القوات حتى شارع الإمام المهدي شرقاً، الذي تحوَّل إلى مسرح لعمليات عسكرية نشطة ترتفع وتيرتها وتنخفض أحياناً بين الطرفين، وبالعودة إلى الصور الجوية يقول الخبراء إن حجم الدمار في منطقة شارع الإمام المهدي لا يعضدّ رواية الضابط، مستدلين بحجم الدمار الذي لحق ببرج النيلين وفندق هيلتون وعمارة زين والتي تكشف الصور بأنها تعرضت لتدمير بشكل شبه كامل عكس المباني التي تقع قبل شارع الإمام المهدي.
وكانت وسائل إعلام نشرت -نقلاً عن مصادر وصفتها بالعسكرية- أن القوات المسلحة سيطرت على عدد من المواقع في منطقة المقرن، من بينها مقرا شركتي بترودار والنيل للبترول، وفندق كورال وقاعة الصداقة، فضلاً عن المتحف القومي ومتنزه المقرن وحدائق السادس من إبريل.
ويذهب اللواء معتصم إلى القول إن القوات المسلحة بدأت عملياتها الأخيرة بعد أن فقدت قوات الدعم السريع القدرة على استعواض فاقدها البشري، ويلاحظ أنها صارت تعتمد على المستنفرَين الذين ينقصهم التدريب الكافي والقدرة على تنفيذ خطط عسكرية معقدة ويفتقرون للمهارة في استخدام الأسلحة المعقدة مثل المدافع الحديثة والمُسيَّرات، لذلك لجأت إلى تجنيد مرتزقة أجانب لمساعدتها في عملياتها.
الصدمة
ويضيف تَلاحظ أنه منذ أغسطس 2024م، لم تنفذ هذه القوات أي عمليات كبيرة مثل احتلال المدن أو الحاميات العسكرية، ويُعزى ذلك لفقدانها قياداتها الفعالة في دارفور وكردفان والوسط في سنار والجزيرة، مما جعل الكثير من الجنود يفضلون الهروب على الهلاك، ويعود ذلك لأن التكوين الأساسي لتلك القوات أسري وعشائري يقوم على الولاءات المتبادلة وتعوزه المؤسسية.
ويعتبر اللواء معتصم أن قوات الدعم السريع لم تفق من صدمة 26 سبتمبر وبسببها فقدت أغلب مواقعها في ولاية سنار وتقهقرت في دارفور، كما استسلمت قيادتها في الجزيرة، ومما عقد أوضاع التمرد -بحسب اللواء معتصم- استهدافهم المباشر والموّثق للمدنيين، الأمر الذي أثّر على مواقف داعميه ومحرضيه والمتعاطفين معه… وعلى المستوى الدولي السياسي، تواصلت الاستنكارات والتبرؤ من تلك الممارسات الفاضحة.
ويمضي قائلاً إنَّ عملية الانفتاح حققت الهدف الأساسي لها وهو ربط قوات كرري بقوات بحري، مما سهّل الإمداد والانتشار للقوات لتنفيذ عمليات واسعة، من جانب آخر حققت القوات التي عبرت للمقرن تقدماً باستلام مواقع أمامية تساعد على ربط قوات أم درمان مع قوات الخرطوم.
مسافة صفر
وبسؤاله عن الهدف النهائي من العملية يقول: “الخطة النهائية تستند على الانتشار والارتكاز في كل العاصمة ولكن الوضع العملياتي يتطلب وثبات حذرة وهو ما يبطئ معدل التقدم، إذ لا بد من إزالة العوائق مثل القناصين والألغام وتلافي الكمائن والالتفافات، لأن مثل هذه العمليات تعتبر من أخطر أنواع حرب المدن لوجود المباني الشاهقة والطرق الضيقة المتعددة، مما يتطلب جمع المعلومات الاستخبارية الميدانية لأن أي إخفاق في مثل هذا النوع من العمليات كلفته البشرية باهظة، وتحدث الالتحامات فيه من مسافات صفرية وتكون القوات المدافعة دائماً في وضع استكشافي أفضل من المهاجمة”.
وهو ذات الاتجاه الذي ذهب إليه اللواء متقاعد فضل الكريم عبد الله قائلاً لـ”أفق جديد”: “نعم، لم تحقق القوات المسلحة كل أهدافها من عملية 26 سبتمبر ولكن العملية حققت الهدف الأهم وهو تغيير عقيدة القوات المسلحة من الدفاع إلى الهجوم، فالملاحظ أن الدعم السريع لم يستطع دخول سلاح الإشارة رغم أنه هاجمه منذ بدء الحرب ما لا يقل عن 175 مرة، وفشل في الاستيلاء على المدرعات التي فاق عدد هجماته عليها 200 مرة، وفشل كذلك في السيطرة على قاعدة حطاب العسكرية ومعسكري الكدرو والعيلفون، وفشل في اقتحام القيادة العامة، كما فشل في مدينة الأبيض وبابنوسة والفاشر، وكل تلك المواقع لأنها مواقع القوات المسلحة فيها في حالة دفاع وهي العقيدة القتالية منذ الأزل للجيش السوداني وبعملية 26 سبتمبر تحولت هذه العقيدة”.
ويقرُّ عبد الله أن خسائر عملية 26 سبتمبر كانت كبيرة مقارنة بما حققته من نتائج على الأرض، عازياً ذلك لطبيعة المعركة التي تدور من شارع لشارع ومن بيت لبيت وتجد القوات فيها نفسها ملتحمة مع “العدو” من المسافة صفر.
مواجهات
وتبسط قوات الدعم السريع سيطرتها على مواقع عديدة في الخرطوم بحري، أهمها شمبات والختمية وصولاً إلى أحياء بحري القديمة جنوباً، إضافة إلى كافوري والحاج يوسف ومنطقة شرق النيل، كما تسيطر على مقر مصفاة الجيلي للبترول منذ بداية الحرب، لكن الجيش يحتفظ بمقري سلاح الإشارة والأمن السياسي التابع لجهاز المخابرات أقصى جنوبي الخرطوم بحري، إضافة إلى معسكر له بمنطقة العيلفون، إلى جانب معسكري الكدرو وحطاب، وكان مخططاً أن تلتحم قواته التي عبرت جسر الحلفايا بقوات منطقة الكدرو وهو ما حدث بالفعل لتتجه مجتمعة إلى الالتحام بقوات سلاح الإشارة جنوبي المدينة، ومنها إلى مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم عبر جسر النيل الأزرق، وهو ما لم تستطع تحقيقه، حيث توقف تحرك تلك القوات عند نهاية حي الحلفايا مع أنباء شبه مؤكدة عن تمكن الدعم السريع من التقدم فيه، حيث بات الجزء الجنوبي منه منطقة اشتباكات وتراجعت قوات الجيش إلى شماله في المنطقة المتاخمة للجسر وضاحية الإزيرقاب والكدرو.
أما جنوب غربي العاصمة الخرطوم، فإن منطقة سلاح المدرعات التابعة للجيش، بات محيطها ساحة لمواجهات محتدمة، وأصبحت خلال عدة أشهر ماضية، نقطة انطلاق لإحراز تقدم ميداني وكان آخره إعلان الجيش السيطرة على حي اللاماب، في مسعىً منه لتحييد مجموعات من قناصة قوات الدعم السريع المتمركزين في أبراج الرواد السكنية، وصولاً إلى مقر الاستراتيجية التابع للجيش الذي تسيطر عليه هذه القوات منذ يونيو/حزيران 2023م والقريب من منطقة المقرن، حتى يمكن لمحور سلاح المدرعات الالتحام بقوات الجيش في محور المقرن، وتوقفت هذه العملية بحسب ضباط تابعين للدعم السريع بعد تراجع القوات التي دخلت منطقة المقرن لتعود إلى أم درمان.
سيطرة
وفي الخرطوم، رغم انفتاح الجيش على مواقع جديدة، فإن قوات الدعم السريع لا تزال تسيطر أيضاً على أحياء الرياض والمنشية والمعمورة والصحافة وأَركويت وبري والطائف والجريف شرقي الخرطوم، فضلاً عن أحياء ما تعرف بمنطقة جنوب الحزام، وضاحية سوبا حتى حدود ولاية الجزيرة وسط البلاد، وتسيطر على ضاحية الكلاكلة وصولاً إلى مدينة جبل الأولياء “45 كيلومتراً” أقصى جنوب غرب العاصمة الخرطوم.
وفي أم درمان، يسيطر الجيش على محلية (محافظة) كرري شمالها، ورغم تمكنه من استعادة السيطرة على أحياء أم درمان القديمة جنوباً وبعض أجزاء ضاحية أم بدة غرباً، فإن الدعم السريع ما زال يسيطر على ضاحية الصالحة أقصى جنوب غرب أم درمان، فضلاً عن أجزاء من ضاحية أم بدة، التي تدور فيها عمليات عسكرية واشتباكات ليست منتظمة بينهما.
ومع استمرار الحرب لأكثر من 18 شهراً في عدة محاور وجبهات قتالية داخل العاصمة الخرطوم وخارجها، ثمة توقعات بارتفاع وتيرة المواجهات بين الجانبين، بحسب ما أفادت عدد من الصفحات الداعمة للقوات المسلحة على السوشيال ميديا، التي توقعت ما أسمته بالوثبة الثانية في العاصمة متزامنة مع أخرى اكتملت الترتيبات لها في ولاية الجزيرة، بينما تحدثت مصادر موالية للدعم السريع عن أن القوات تخطط باتفاق غير معلن مع قائد الحركة الشعبية شمال عبد العزيز الحلو لمهاجمة مدن كادقلي والدمازين بغرض فرض السيطرة عليهما، وفي الخرطوم تخطط لاستعادة حي الحلفايا.
الجيش يحكم سيطرته على ولاية سنارأ
علن الجيش “تحرير منطقة سنجة” من سيطرة قوات الدعم السريع. وقال السبت، إنه استرجع مدينة سنجة في ولاية سنار الواقعة إلى الجنوب من الخرطوم والتي كانت في قبضة قوات الدعم السريع منذ خمسة أشهر.
وتعد سيطرة الجيش على سنجة، عاصمة ولاية سنار، إنجازا استراتيجيا في الحرب الدائرة منذ 19 شهرا بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، لوقوعها عند محور أساسي يربط بين مناطق يسيطر عليها الجيش في شرق السودان ووسطه.
وفي الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي أحكم الجيش سيطرته على مدينة الدندر المحاذية لمدينة سنجة على ضفة النيل الأزرق الشرقية واردفها بعد يوم واحد بمدينة السوكي. وسبق ذلك سيطرة الجيش على منطقة جبل موية الاستراتيجية.
وبذلك يكون الجيش قد احكم سيطرته على ولاية سنار وسط البلاد.