قراءات ذات بهجة

صدر في بحر هذا العام 2024، عن دار “بدوي للنشر والتوزيع” كتاب (تجديف على شواطئ مزهرة)، للأستاذ عادل الباز، وكنت قد قرأت المخطوطة قبلا. ضمّ الكتاب عددا من المقالات التي سبق أن نشرت في الصحف السودانية، وقد جال في خاطري وأنا أقرأ المخطوطة، لماذا يا ترى انتخب الباز هذه المقالات دون غيرها لينشرها في كتاب؟ ولا خلاف هنا في أن من يمتلك الإجابة هو الباز نفسه، ومع ذلك فإن القارئ أيضا له إجاباته، وذلك لأن القراءة بما هي فعل تتحدد وضعيته، بموقع القارئ/القارئة وبالنظام الذي يُوجد فيه ما يقرأ، “المقالات”، أي نظام الكتاب، ثم بالسياق الذي تصنعه المقالات مجتمعة وفقا لترتيبها، وللتاريخ الذي ستقرأ فيه، الذي حتما ليس هو تاريخ أو تواريخ نشرها فى الصحيفة.

هذا التاريخ بكل ما ينهض عليه من تحولات فى مختلف الفضاءات، سياسية كانت أم ثقافية أم اجتماعية، هو ما سيحدد الطريقة التي تقرأ بها هذه المقالات، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر إضافة إلى أنها الآن ستقرأ دفعة واحدة ويحكمها ترتيب فرضه نظام الكتاب، ليكون المعطى الأولي أنها ستقرأ بغير الطريقة التي نشرت بها في الصحيفة دونما سياق يحكمها. 

المقالات:

تبحر المقالات في عوالم وفضاءات شتى سكنت قلب المؤلف وذاكرته ومنحته أجنحة يطير بها في سماوات المحبة والوفاء والامتنان والأسى، هي عوالم الشعر، وفضاءات الرواية، وحنين السير الشخصية، والمذكرات، وحيوات شخصيات خلقها الخيال.

تبحر المقالات وعلى طريقة السهل الممتنع في استجلاء سجل عالمنا الذي نعيش خاصة في محيطنا العربي والافريقي، ففي المقالات حضور لثيمات الموت والقهر والفقر والهويات المتقاتلة والحروب وخيانة المثقفين والنخب وبالمقابل هناك حضور لأناشيد المحبة والمقاومة والعدالة والتحرر والجمال والأمل.. سنلمس كل هذا في جميع المقالات بلا استثناء وكأنما هناك خيط رفيع يجمع بينها ليضعها وكأنها مرآة للحظة الراهنة التي نعيش، فإذا كنا نعيش في عالم تميز بإذابة الحدود فإن المقالات وبخيطها الرفيع هذا تعمل على كشف الحدود بما يفيد الالتقاء أو التشابه هنا وهناك فيا ترى هل ثمة صلة ما بين (مهارب المبدعين) للدكتور النور حمد و(مذكرات منصور خالد) و(موسم الهجرة إلى الشمال) وعبدالله حمدنا الله؟ وهل ثمة صلة ما بين رواية (الطلياني) ورواية (ساق المامبو) ورواية (توترات القبطي)؟ وهل ثمة صلة ما بين سميح القاسم وسعدالدين إبراهيم وفضل الله محمد

وبين محمد وردي ومحمود عبدالعزيز؟ بالطبع هناك صلة ما، بل صلات ما يكشفها الباز بنسجه “كتابة” من روح تلكم العوالم والفضاءات التي يضج بها الشعر والغناء وتضج بها الروايات والسير والمذكرات وتضج بها حكايات الأصدقاء.. يضج بها كتاب (تجديف على شواطئ مزهرة)، أو ضجّ بها الوطن كما رآه ويراه الباز فقد جاء في الكتاب: (فإن وطنا بلا غناء ولا أنس ولا حكايات لا يستحق العيش فيه).

فهذا الكتاب الذي يغطي مسيرة ربع قرن من الزمان- تاريخ كتابة المقالات – تبدت فيه وبشكل واضح مهارات الصحفي ومهارات السارد وهما مهارتان تتوفران حد الإتقان عند الباز، ففي مهارات “الصحفي” تبدت تكلم القدرة على الاختزال دونما إخلال بالمحتوى كما في كتابته عن “مذكرات منصور خالد” وفي مهارات “السارد” تبدت في تلكم القدرة على الحكي كما في غالبية المقالات خاصة كتابته عن “الدكتور عبدالله حمدناالله”.

لكن ثمة فكرتان أود التوقف عندهما في خواتيم هذه المقالة الموجزة التي جاءت على سبيل الاحتفاء.

الفكرة الأولى تتعلق بعنوان الكتاب وفيها أقول: إن العنوان بمفرداته الأساسية

(تجديف، شواطئ، مزهرة) يوحي بما يشبه الرحلة البحرية أو النهرية وما يترتب عليها من حيازة للنزهة والمعرفة وتمتّع بالجمال ومع حضور الماء بقرينة التجديف، وحضور الإخضرار بقرينة مزهرة نكون أمام الحياة في سطوعها البليغ ولما كان من طبيعة أي رحلة إنها لا تخلو من مخاطر، تكون مع عنوان من ضمن دلالاته مديح الحياة برغم مخاطرها وعنتها حيث لا يخلو تجديف من مخاطر ولا تخلو رحلة من مخاطرة، فالكتاب فى عمقه البعيد ما هو إلا احتفال بالحياة ومقاومة للموت والتشبث بالأمل والأحلام العريضة.

الفكرة الثانية وهي على صلة بما يمكن تعريفه بـ”التسامح التحرري” الذي تحلّق أطيافه فوق كل سطر وكل فقرة في الكتاب ولأن الكتاب يجيء وثقافة الكراهية تتسيّد المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في السودان ونشهد يوميا القتل على الهوية والتغوّل على حرية التعبير، أحسست بالكتاب وربما آخرون أحسوا بمثل ما أحسست وكأنه نفحة باردة في سموم حياتنا الموبوءة بالعنف والكراهية، المحاصرة بالحرب الآن، ففي الكتاب الذي مؤلفه محسوب على الإسلاميين احتفاء عظيم بمن يمكن وضعهم في خانة الخصوم أو المختلفين سياسيا كالأستاذ عبدالخالق محجوب، بل في الكتاب تحسّر على إعدام الأستاذ محمود محمد طه، ولأن النماذج هنا كثيرة أوجز وأقول: إن هذا الكتاب من بعض ما قد يَسِرُ به إلى القارئ/القارئة هو ذلك الشغف المُشعُ بالتسامح.

هذا كتاب ممتع وجميل لأنه وقبل كل شيء أكد على أن ليس من بهجة تضاهي الابتهاج بالقراءة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى