الثورة في عيدها السادس
التايملاين "يقاوم"
شوقي عبد العظيم
عندما اجتاز الثوار “الحاويات” في مدخل كوبري المك نمر في موكب 25 ديسمبر 2021 بعد أن تسلق بعضهم فوقها ثم أطاحوا بها أرضا حتى يعبر الموكب نحو “قصر الانقلابيين” كما كان يسمى وقتها كان هناك في غرفة الميدان – الغرفة التي تخطط للحراك- يجري نقاش حاد في أجواء من القلق والتوتر هل عبور المك نمر تعادل قيمته في الفعل الثوري المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الثوار؟ مع العلم أن حشودا ضخمة وصلت مشارف “القصر” حينها من أنحاء أحياء اللاماب والكلاكلات وجنوب الحزام وسوبا والبراري وأركويت والصحافات والديم والعمارات والجريف غرب والمعمورة والمنشية والرياض في الخرطوم، ومن تسللوا من أم درمان وشرق النيل ومن أنحاء العاصمة.. هل يساوي الفعل المخاطر؟ كانت الإجابة من مقطع لا تتعدى مدته ثوانٍ أُرسل إلى هاتف أحد الشباب المنهمكين في النقاش يظهر فيه ثائر عمره عشرون عاما أو أقل من أعلى الحاوية يضع وجهه قريبا من الكاميرا عاريا إلا من فنيلة داخلية يلوح بقبضة يده ويقول “قاعدين نقاوم ح نقاوم”، بعد صمت اتفق الجميع على أنها “المقاومة”. وفي الذكرى السادسة للثورة قال التايملاين “قاعدين نقاوم ح نقاوم”.
فكرة مقاومة “وأد المقاومة “تجلت في الذكرى السادسة لثورة ديسمبر المجيدة بعد ابتكار الثوار مواكب السوشيلميديا الاسفيرية وفي الحقيقة لا يخشى الديكتاتور من نتائج الاحتجاجات ومقاومة نظامه في الأيام الأولى من الحراك لأن الديكتاتوريات والشموليات تستند على عقيدة أنها لا تهزم وأنها باقية إلى الأبد، وهذا ما يبرر الطغيان وعدم الاكتراث لحياة الناس. الذي يهم الطاغية في الأول إيقاف مظاهر المقاومة ووأدها ويذكر كثيرون سلسلة الحلقات التي بثتها قناة العربية بعنوان الاجتماعات السرية لجماعة الإخوان المسلمين في السودان عندما تحدث علي عثمان محمد طه طالبا من إخوته في الله التماسك وترك الخوف مقللا من قدرة احتجاجات ثورة ديسمبر من الاطاحة بنظامهم. وقال “الناس ما تتوتر مرينا بمطبات أصعب من دي والمظاهرات ما بتسقط حكومة”. وفي نقاش مع قيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول قبل سقوطه عن فرص نجاح الثورة من عدمها وبعد جدال طويل وبطريقة لا تخلو من استعلائية قال “المظاهرات دي ممكن تعمل تغيير في سياسة الحكومة لكن تغير الحكومة ده مستحيل”. وحسم النقاش بعبارة “ما تحلموا”. وكذلك الديكتاتور بعد أن تفشل أدواته للقمع في “وأد المقاومة” يبدأ في التحايل للوصول إلى تسوية مع المحتجين تبقيه في السلطة ولو بمقدار الكرسي الذي يجلس عليه، وكلنا يذكر وقفة البشير الأخيرة في حديقة “قصر الانقلابيين” ليلقي على السودانيين خطابه الأخير المحشو بخديعة “سأقف على مسافة واحدة من الجميع” ولكن القطار كان قد صفر، وقبل أن نعود للتايملاين الذي يقاوم أيضا تذكرون الرسالة التي حاول أحمد هارون دسها في مقابلة مع الطاهر حسن التوم في قناة سودانية 24 كانت هي الأخيرة أيضا عشية السقوط عندما قال مخاطبا المعارضة التي تقود الحراك في الشارع “تعالوا نتحاور لا مانع من الحوار، نمد أيادينا بيضاء للحوار”. ومن قناة سودانية ذهب هارون إلى الإمام الصادق المهدي عليه الرحمة متأبطا ذات الخديعة ولكن القطار كان قد بلغ محطته الأخيرة.
منذ أمسية 18 ديسمبر 2024 احتلت دعوات المشاركة في المواكب الأسفيرية لإحياء ذكرى الثورة جميع مواقع التواصل الاجتماعي وسدت الآفاق على عدها من بوستات ومنشورات على فيسبوك وتويتر وواتساب، وكانت بمثابة “قيدومة” للمواكب على غرار ما كنا نشهده قبل يوم من الموكب في شوارع العباسية والشعبية وودنوباوي وباشدار وغيرها من المناطق, وفي صبيحة يوم الخميس الماضي 19 ديسمبر كان هشتاق “#الثورة – مستمرة ” و”# الثورة- باقية” و”مدنياااااو” و”العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” وغيرها من الهاشتاقات وصور شهداء الثورة وفيديوهات المواكب والأغنيات الثورية متصدرة كل المواقع، فضلا عن كتابات الثوريين التي كان مفادها أن الثورة راجعة وراجحة ومنتصرة. قال لي أحد الناشطين السياسيين من جماعة الردة مستحيلة –تعرفونهم- لما مرت علي دعوات المشاركة في المواكب الإسفيرية غشتني حسرة وألم على أيام المقاومة النواضر والأمل الذي لاح واكتأبت ولكن منذ الساعة الواحدة بتوقيت الثورة وإلى نهاية اليوم كنت في غاية الانشراح وتأكدت أن شعلة الثورة لا تزال مشتعلة ولم يطفئها انقلاب ولا حرب ولا تأمر المتآمرين وأن حصادها قادم. وحال الناشط من جماعة الردة مستحيلة كان هو حال كثير من الناس الذين خرجوا من المواكب الإسفيرية والحماس الثوري عاد هاتفين “ثوار أحرار ح نكمل المشوار”.
المفارقة أن مواكب المقاومة الإسفيرية في الذكرى السادسة للثورة لم يغيب عنها “الكجر” كما كان يطلق الثوار على قوات الشرطة وأبو طيرة والجيش والدعم السريع وكتائب الظل من الأمن الشعبي وجهاز الأمن الذين كانوا يحملون الهراوات والغاز المسيل للدموع “البمبان”، وفي كثير من الأحيان الكلاشات والأسلحة المعبئة بالرصاص الحي، والكجر هذه المرة كانوا كثيرا من “الكيزان” وانتهازي نظامهم ومتسلقيه وعدد غير قليل من البلابسة دعاة استمرار الحرب ومجموعات “الجداد الألكتروني” أصحاب الحسابات الزائفة والصفحات المغلقة الذين بدأوا بشتم الثورة وأرادوا أن يصدروا أمرين أن الثورة سبب الحرب وأنها انتهت إلى غير رجعة ولكن كان لهم الثوار بالمرصاد مؤكدين أن الثورة باقية ومنتصرة، لذا سريعا تراجعوا وافسحوا الطريق للمواكب الإسفيرية وهزم منطقهم شر هزيمة وقطعا على طريقة تقديراتهم الخاطئة ظنهم أن الثورة انتهت وأن الحرب أعادت للحركة الإسلامية بريقها وألقها كما قال شيخهم عبد الحي يوسف غير أن المواكب الإسفيرية في ذكرى الثورة أكدت أن البريق بريق الثورة والألق ألقها.
بعض البلابسة وأعضاء النظام البائد حاولوا أن يتحايلوا على ذكرى الثورة بالتباكي عليها حينا وإبدالها بذكرى إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في 1955 ولكن هذه الحيل لم تثمر ووجدت مقاومة شرسة من الثوار، غير أن أيتام العيد السادس للثورة هم من كانوا في صفوف الثوار ووجدوا أنفسهم بعد اندلاع الحرب في تاتشرات أحد أطرافها وداهمتهم الذكرى والمواكب الإسفيرية والحرب انقشع كثير من غبارها ودخانها وتبين أنها صنيعة النظام البائد وأنها فارغة من المعنى وهدفها الأوحد قطع الطريق على الثورة والتحول الديمقراطي، وهؤلاء تبين عوار موقفهم في الذكرى السادسة للثورة ولا أحد يعلم هل حال سينزل من هم في صف الدعم السريع من تاتشراته ويطالبونه بالديمقراطية أم ينزل من تاتشرات الجيش مؤيديه ويطالبونه بالمدنية أم تنازل قدامى الثوار من مطالب الثورة وشعاراتها حرية سلام وعدالة مدنية خيار الشعب.
مواكب الذكرى السادسة للثورة كانت مناسبة للمراجعة وتلمس الأخطاء وشحذ المعنويات من جديد لجولة طويلة من المقاومة، والجميل أن التايملاين الذي يقاوم امتلأ بالصور الجميلة والهتافات والذكريات وأدهش جميع أعداء الثورة والديمقراطية وكشف لهم أن ما أنفق في وأد الثورة ذهب أدراج الرياح.