أفق جديد
” الجاسر” مزدحم على غير عادته، محتشدًا بالفارين من بيوتهم، يلتفتون إلى الوراء لتكتحل عيونهم بــ”الجزيرة” للمرة الأخيرة وفي أذهانهم يتعملق السؤال هل ستصمد أمام ثوران النيل الأبيض الذي عرف بهدوئه وحنوه على من يقطنون حوله؟ يبدو إنه تأثر بحالة الهيجان التي ضربت البلاد منذ صبيحة 15 أبريل 2023 ولا زالت مستمرة، وهناك في أبراجهم العاجية يحاولون أن يستنبطوا من مأساة أهالي الجزيرة أبا نقاطًا في حربهم، يتبادلون الاتهمات وكل طرف يرمي بالمسؤولية على الآخر. اندفع المؤيدون لاستمرار الحرب إلى القول إن قوات الدعم السريع أغلقت بوابات الخزان، بينما سارعت الأخيرة إلى القول إن سبب غرق قرى النيل الأبيض هو غارات الطيران على خزان جبل الأولياء، التي بلغت أكثر من 70 غارة جوية منذ سيطرته على المنطقة، والواقع يقول لنا في سودان الحرب لم يعد شيئًا على حاله، جاء النيل الأبيض هذه المرة حاملاً معه صخب الخراب قبل أن ينتهي صدى صراخ أهل شبشة “ألحقونا” نادى منادي الجزيرة أبا “نحنا بنغرق”.
وفق مواطنين من الجزيرة أبا فإن مياه النيل الأبيض اجتاحت عدداً من الأحياء والأراضي الزراعية في المدينة بسبب ارتفاع منسوب المياه الذي أدى إلى كسورات كبيرة فيما أطلق عليها مناطق الهشاشة على ضفتي النيل الأبيض.
وقالوا في إفادات لـ”أفق جديد” “لم تنج من المياه حتى المناطق التي تأوي النازحين في مدرسة الجزيرة أبا الثانوية مما دفع بهم للخروج بحثًا عن مناطق آمنة”.
وتوقعوا أن تتسع رقعة الفيضان لتشمل أحياء الطيارات شرق والزغاوة والإنقاذ الغربي وأرض الشفاء ودار السلام وحلة نصر وأركويت وأبو أمكوم وطيبة”، مشيرين إلى أنباء تتحدث عن تعرض حي الغار أيضا للغرق.
من جانبه يرسم الباشمهندس أرباب محمد أرباب صورة قاتمة للأوضاع في المنطقة، وفي حديثه لـ”افق جديد” لا يخفي مخاوفه من القادم.
ويقول إن زيادة وارد المياه في النيل الأبيض بلغت في هذا العام 200 كيلو متر مقارنة بالأعوام السابقة، وهو أمر تزداد خطورته مع تراجع دور المؤسسات الرسمية في البلاد في ظل الحرب، ما يجعل مواجهة خطر الفيضان يقع على عاتق المواطنين.
وقال أرباب إن هناك غياب لأي دور رسمي يؤكده ما بدا ظاهراً للعيان في دعاوى “أنقذوا الجزيرة” التي تمتلئ بها وسائط التواصل الاجتماعي، وما انعكس من استجابة لها على أرض الواقع، إذ فعل شباب الجزيرة ما يفعله الشباب في مثل هذه الظروف وعملوا على “تتريس” النيل.
ويضيف المهندس أرباب مستدركًا “لكن بالنسبة للكثيرين فإن “الترس” الشعبي يمكنه أن يوقف الخطر لبعض الوقت دون أن يتمكن من القضاء عليه. وبالنسبة لأهالي الجزيرة فإن الأمر يحتاج للجهود الرسمية من أجل مواجهة الخطر وهي الجهودة الغائبة عند البعض والضعيفة عند أكثر الناس.
وتابع “في صبيحة ما بعد الفيضان شوهدت آليات رسمية تعمل في بعض الجسور من أجل التقليل من حدة وآثار الفيضان الغريب في شكله وتوقيته في المنطقة، ولكنه جهد دون حجم الكارثة”.
ويرى أرباب أن تحديد أسباب هذا الفيضان ربما تعود وبشكل رئيسي للمشكلات التي تواجه عملية تشغيل خزان جبل الأولياء الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع في سياق معركتها مع القوات المسلحة.
وأكد أن عدم فتح الخزان هو السبب الرئيسي في غرق المناطق جنوب جبل أولياء، وحذر من أن هذا الأمر من شأنه أن يغرق مناطق أخرى على ضفة النيل، الشيء الذي بدأت ملامحه تظهر في مدينة كوستي إذ غمر النيل بعض المناطق القريبة منه وهي مناطق ظلت آمنة طوال الفترات السابقة.
وفي رده عن سؤال “أفق جديد” إن كانت الأزمة تتمثل في الفيضان فقط يجيب المهندس أرباب إن الأمر يكمن أيضًا في مضاعفات حركة النيل نفسها حيث دخل الناس نحو مرحلة “غرق اليموت مرضان”.
ويؤكد ممارس طبي بمستشفى المدينة تزايد الإصابات بمرض الاسهالات المائية بحسب حجم التردد على المستشفى في الأيام الفائتة، مشيرًا إلى ارتباط المرض بشكل كبير بالأوضاع البيئية في المنطقة التي تبدو في أسوأ أحوالها الآن.
يجرف النيل في طريقه المزارع والبيوت ويضطر النازحون بسبب الحرب للبدء في رحلة نزوح جديدة هذه المرة من المناطق التي يهددها الفيضان نحو مناطق أخرى أكثر أمانًا.
واستقبلت الجزيرة آبا عشرات الآلاف من المواطنين هرباً من الحرب ومواجهات أطرافها ليجدوا أنفسهم في مواجهة غضبة النيل. وللمفارقة فإن السبب في الغضبة نفسها سلوكيات من يخوضون الحرب الآن ممن أغلقوا الخزان ودفعوا بالنيل الأبيض في رحلة عكس مساره تبدو مخاطرها الآن.
يحكي أرباب بلسان الأسى “الوضع لا يمكن تصوره” الكارثة تحيط بالجميع ففي الجزيرة حتى القبور لم تنج، فقد جرفتها السيول في طريقها، “المقابر” صارت أثرًا بعد عين، وعين الناس هنا تبصر الخطر لكن أياديهم عن المواجهة قصيرة.
وأردف محذرًا “على الجميع الضغط من أجل فتح الخزان لانسياب المياه أو الاستعداد لرؤية مدن وحيوات كاملة جنوبه وهي تدفن تحت الماء”.
وفيما شاعت رواية إغلاق الدعم السريع لأبواب الخزان على نطاق واسع، يقول استشارى المياه والسدود المهندس أبوبكر محمد المصطفى أن سد جبل الأولياء ظل مهملًا من النظام البائد لثلاثين عامًا، فعمليات الصيانة الدورية من تأهيل للبوابات وتطهير للمجرى بالقرب منه لم تكن تتم بالصورة المطلوبة.
ويضيف في تسجيل تم تداوله على نطاق واسع “منذ أن وصل البرهان إلى السلطة لم يتم أي اعتماد مالي لصيانة السد”، محملًا الجيش مسؤولية ما جرى وسيجري في السد قائلا “إن قصف الطيران للجسر له آثار إلى الآن لا أحد يستطيع تحديد حجمها لأنه لا يوجد أي مهندسين في السد في الوقت الراهن”، مشيرا إلى أن المعلومات تشير إلى تعطل البوابات التي تعمل بالهايدروك جراء العمليات الحربية التي تتم على ىجسم السد”.
ويضيف إن الوعي الهندسي يخشى من تطور الأحداث إلى ما لا يحمد عقباه بانفجار السد نفسه، الشيء الذي إن حدث سيسبب مضارًا كبيرة جدًا على كل الجزر النيلية من جبل الأولياء وحتى سد مروي، واصفًا العمل الحربي بالطيران على جسم السد بأنه انعدام للمسؤولية، مستدركًا بإن مسؤولية السلطة الحاكمة في بورتسودان عما يجري للسد لا تعفي كذلك الدعم السريع من المسؤولية.
وفي عين الوقت تنصلت قوات الدعم السريع في بيان، مما يجري لافتة إلى أن قصف الطيران هو الذي أدى إلى أضرار كبيرة بجسم السد إضافة إلى القصف المدفعي المتواصل.
ويبقى القول إن في قرى النيل الأبيض مشاهد مروعة لمنازل غارقة وطرق تحولت لأنهار، ونهر ما يزال يؤجج الخوف في قلوب الناس لدرجة إنهم باتوا يخافون هبوب نسمة يتحرك بعدها النيل نحوهم.
هناك تجمعات لأناس لا يعرفون إلى أين يمضون. يسكنون في العراء يكاد صوتهم يخرج مطالباً بالتدخل العاجل من الجهات المختصة والمنظمات الإنسانية لتوفير مساعدات لمواد أساسية “خيام وغذاء ورعاية طبية” وأدوية لمواجهة الأوبئة.