سياسات تكريس تقسيم البلاد

حيدر المكاشفي

كان أحد أقربائي عند بداية الحرب (بلبوسيًا) على السكين، وعبثًا كنت أحاول إقناعه بأن لا خير يرجى من الحرب بل هو الدمار والخراب والخير كل الخير في إيقافها، وظل قريبي هذا على (بلبسته) على مدى نحو ستة أشهر، كانت خلالها داره الفخيمة بضاحية شرق النيل قائمة لم يطلها أي أذى ولم يمسسها سوء ولم يخسر شيئًا من أملاكه، ورغم أني كنت أنبهه بأن داره وأملاكه لن تسلم من الخراب وسيطالها الدمار و(الشفشفة) يومًا ما طالما استمرت هذه الحرب، ولكن رغم تحذيري له ظل على ضلال (بلبسته)، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي هجمت فيه المليشيا والشفشافة على داره ولم تبق فيها (نفاخ النار)، وتم الناقصة طيران الجيش الذي أخطأ تمركزات المليشيا ودمر جزءًا كبيرا من الدار وأحالها إلى رماد، ومن يومها (عرف صاحبنا أن الله حق وأن الحرب لعنة) وتخلى عن البلبسة وأصبح من أكبر لاعني الحرب والمطالبين بإيقافها. وتلك هي حكاية جحا التي تنطبق على كل البلابسة المغيبين المخمومين من قطيع (السواقة بالخلاء)، فعندما قيل لجحا حسب الرواية وهو بعيد عن بيته لقد شبت النار في قريتك يا جحا، وعليك أن تعود لتساعد الناس على إطفائها. قال جحا بيني وبين ناسها خلاف قديم، لا شأن لي بهم. المهم أن الحي الذي أسكنه في أمان. ثم جاء من يقول له النار وصلت إلى حيّك يا جحا، فأجاب لست معنيًّا به، حي بائس ومُتخلِّف، المهم بيتي. وفي الطريق أخبره أحدهم أن النار امتدت الآن إلى بيتك. لم يتردّد جحا كثيرًا، فقال لمُخاطبه بيت متهالك، ليس خسارة. المهم رأسي وما عداه لا يعنيني. لكن ما سكتت عنه الحكاية، هو أنه عندما جاء من يقول لجحا إن النار شبت في رأسك، كان كل شيء قد انتهى..

منذ الأيام الأولى للحرب، كان واضحًا لكل ذي بصر وبصيرة فيما عدا مشعلي الحرب من الكيزان وفلولهم والمستفيدين من نظامهم وقيادات الجيش المختطف، أن تطاول أمد هذه الحرب سيؤدي إلى نتائج كارثية مهلكة على البلاد والعباد، وأن كل يوم يمر على الحرب يعني المزيد من الخراب والدمار والضحايا وتوسع رقعة الحرب وجغرافيتها، وهذا ما حدث بالفعل إلى أن وصلت الكارثة الآن إلى ما يهدد وحدة البلاد وينذر بتقسيمها وتفتيت كيانها الحالي. فبعد مرور أكثر من عشرين شهراً أضحى خطر تفكيك البلاد وتقسيمها ماثلاً، تجسده مجموعة من سياسات حكومة بورتسودان، وتغذيه جملة من الممارسات يأتي على رأسها خطاب الكراهية الجهوي والعنصري الذي أحدث زلزلة في النسيج الاجتماعي بما يهدد الوجدان الوطني والتماسك المجتمعي والسلام الاجتماعي بالتدابر والتباغض والتباعد والانقسام، وعزز هذا الخطر الماحق وجعله واقعًا معاشًا، ما اتخذته سلطة بورتسودان من سياسات مقصودة، تمثلت في قرار تغيير العملة الذي فرض على الولايات التي تقع تحت سيطرة الجيش التعامل بعملة مختلفة عن تلك التي يتم تداولها في مناطق سيطرة الدعم السريع. وكذلك كان قرار إجراء امتحانات الشهادة السودانية في الولايات التي يسيطر عليها الجيش وعدم قيامها في الولايات التي يسيطر عليها الدعم السريع، إضافة إلى عدم استطاعة قطاعات واسعة من الشعب السوداني استخراج الأوراق الثبوتية، بل وحرمان البعض منها لأسباب سياسية وجهوية، وقد أدت هذه السياسات الممنهجة والمتعمدة إلى تكريس الانقسام القائم أصلًا بسبب الحرب التي تقاسم طرفاها السيطرة على أجزاء البلاد، فقد قسمت الحرب السودان إلى جزئين، جزء في غرب السودان في دارفور وكردفان والجزيرة وسنار وهي تحت سيطرة ونفوذ قوات الدعم السريع التي تسعى الآن بخيلها ورجلها للسيطرة على الفاشر، لتبسط نفوذها بالكامل على إقليم دارفور الذي يساوي مساحة دولة فرنسا وتنفرد به ملكية خالصة لها، وجزء آخر في شرق السودان في كسلا والقضارف والبحر الأحمر، وشمال السودان في نهر النيل والشمالية تحت سيطرة ونفوذ الجيش، في تجسيد عملي على الأرض لما يسمى دولة النهر والبحر أو قل النسخة المحدثة والمطورة لما يعرف بمثلث حمدي، وأصبحت المناطق تحت سيطرة الدعم السريع تتبع لها بالكامل عسكرياً وإدارياً، وشكلت فيها مجالس للحكم خاصة بها دون أي وجود للحكومة فيها، وقد مثلت هذه الخطوات البداية الفعلية لتقسيم البلاد، وللأسف تسعى بعض القوى السياسية والحركات المسلحة المحسوبة على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية (تقدم) بزيادة الطين بلة لتكريس واقع التقسيم، بعزمها على إنشاء حكومة موازية. ولا تتقاسم قوات الدعم السريع والجيش السوداني المناطق في السودان لوحدهما، فهناك فصائل مسلحة تشاركهما السيطرة والنفوذ، فهناك الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها عبد العزيز الحلو، وتسيطر على مناطق واسعة في ولاية جنوب كردفان، بل إنها تمددت خلال فترة الحرب الحالية، وتمكنت من زيادة رقعة سيطرتها الجغرافية في ظل انشغال الجيش بالقتال مع قوات الدعم السريع، وأيضاً تسيطر حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور على عدد من المناطق في إقليم دارفور.

ولو استمر هذا الحال مع استمرار الحرب ربما يؤدي إلى انقسام السودان ليس فقط إلى دولتين بل عدة دويلات وربما مشيخات وسلطنات، فبلادنا تعاني أساسًا من هشاشة بائنة في وحدتها الوطنية ولحمتها القومية، ولا أجدني مبالغًا إذا قلت إننا من نسمي أنفسنا سودانيين ونعيش على هذه الأرض المسماة السودان، ما زلنا أمة تحت التكوين ووطن تحت التأسيس ودولة لم تتأسس بعد على أسس الدولة الحديثة، وينتظرنا الكثير على هذا المسار الشاق، ولكن للأسف بدلًا من أن تتجه العزائم لإنجاز هذا الهدف الكبير، إذا بالبرهان وكيزانه وفلولهم يزيدونها ضعفًا وتمزقًا بإعادتها إلى تقسيمات المستعمر، الذي قسم البلاد على نهج (فرق تسد) إلى ديار للقبائل حتى تسهل له السيطرة على كل قبيلة على حدة، فكانت هناك دار داجو، دار تنجر، دار ميدوب، دار زغاوة، دار كبابيش، دار حمر، دار مسيرية، دار برتي، دار برقد، دار مساليت، إلخ إلخ، ومثل هذا التقسيم الاستعماري الذي سارت على نهجه (الإنقاذ) المدحورة، وتقتفي أثره الآن شلة بورتسودان يهزم تمامًا مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي عرفها العالم وترسخت خلال القرون الأخيرة، وهو مفهوم يقوم على فكرة أن الدولة كيان ضروري لحياة البشر، وأنها تُبنى على أساس فكرة جوهرية هي أن الدولة لكل مواطنيها دون تمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو المذهب أو أي تباين في أي من الصفات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وبلادنا وفقًا لهذا المفهوم العصري الحديث، ملك لكل السودانيين، وكل جزء فيها متاح لإقامة وعمل وتملك أي سوداني وسودانية دون تمييز بسبب القبيلة أو العرق أو النوع أو الدين.. إن حاجة بلادنا الضرورية والملحة اليوم، هي لتكوين الأمة الواحدة وتأسيس الوطن الواحد وبناء الدولة الحديثة، وأن تتوحد كل الجهود وينصرف الكل بالكلية لأداء هذا الواجب المقدس، الذي يحتاج إلى تضافر الجميع وتناغمهم بلا أي نشاز ودون أن يشذ أحد، وهل مثل هذه الغاية الكبرى ستكون موضع خلاف وتنازع، ومن هذا الذي سيجادل ويصارع في أمر بناء وطن متماسك وتأسيس دولة قوية ناهضة وفتية.. المؤكد أن لا أحد يغالط في هذا الواجب المقدس ولا يتخلف عنه إلا متخلف والبرهان والكيزان وشلتهم في بورتسودان الذين يعملون الآن عامدين على إعادة البلاد إلى عهود المشيخات والسلطنات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى