سؤال المبتدأ، جواب الخبر؟

"المجاعة"، محض افتراء، أم مجرد شظف عيش؟!

الجميل الفاضلالجميل الفاضل يكتب:

ما القصة؟

فالناس صرعى من هول الذل:

اصطفت “البساتيل أو البستلات”، و”الجكوك”، وصغيرات الأواني، من كل صنف ولون تزح زحًا، نحو دنان مطاهي، تسمى “التكايا”، ملأ بعضها عدسًا، وشيئًا من “بليلة” في آخر، هو إدام بلا خبز، لا يكفي وجبة واحدة لأسرة صغيرة، ينتظره المصطفون لساعات طوال، رغم غياب الخبز، الذي ثمنه شاعر المنافي محمود درويش بقوله:

“إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر.

ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر”.

على أية حال، يظل الناس هنا صرعى، وما هم بصرعى، زائغة عيونهم في ذهول، من هول ذل، يحلق فوق رؤوسهم المطرقات، كأنما حط عليها طير، بفعل حرب قيل لهم: إنها ما شبت إلا لأجل “الكرامة” كرامتهم.

إنها كرامة يزعم “البلابسة” أن هذه الحرب ستمنحها للناس بيمينها القوية، “فتكًا” و”متكًا”، قبل أن يتفاجأ الجميع بأن “الجوع” قادر بصفوف طعامه المهينة، أن يسلبها لهم بين غمضة عين عن شر الحرب، وانتباهتها على صوت جوع يصدر من غور سحيق، من كل جوف خاوٍ.

هذا بالطبع في الحضر، حيث “غرف الطوارئ” ذات التكايا، فما بالك بجوع من الدرجة الرابعة أو الخامسة، يبحث لإيجاد مخرج منه مجلس الأمن الدولي في جلسة يفترض أن تكون قد انعقدت، يوم الاثنين، جوع أضطر الناس في معسكرات النزوح بدارفور، لمشاركة الحيوان نوع غذائه، وفي قرى وبوادي أخرى يأكل الآن أهلها أوراق الشجر.

لتبقى حقيقة واحدة هي: أن من لا يملك قوته، لا يملك كرامته، ولا قراره، وإن امتلك السلاح.

وإلى أين سيركض هذا الشبح القادم؟

لجان دولية تقرع ناقوس الخطر:

تقطع لجنة دولية أن خمسة علة الأقل من مناطق السودان، تقع الآن بالفعل في نطاق المجاعة، التي تقول ذات اللجنة أنها ستتمدد خلال شهر مايو المقبل لتشمل (17) منطقة أخرى، ما لم تتخذ تدابير فورية لتقديم الغذاء الكافي، بصورة عاجلة ومستدامة لسكانها.

ثم كيف ستحل بالناس المسغبة؟

يقولون: استمرار الحرب يوسع رقعة المجاعة:

يعد استمرار الحرب لنحو واحد وعشرين شهرًا، واتساع نطاقها المحتمل في ظل تصاعد حالة الاستقطاب الإثني والمناطقي الحاد، وارتفاع وتيرة خطاب الكراهية العنصري بين المكونات السودانية، التي باتت تعاني تهتكًا وتمزقًا متناميًا يومًا بعد يوم، في نسيجها الاجتماعي وبشكل شبه ممنهج، نتيجة للسياسات الحكومية التي كرست لواقع الإنقسام، من خلال إجراءات الاستبدال الجزئي للعملة ببعض مناطق البلاد، وحرمان عشرات آلاف الطلاب من حق الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية، الأمر الذي أنتج غبنًا لا يخفى، ربما رشح هو الحرب لدخول مناطق لم تدخلها من قبل، كرد فعل يأتي على كل ذلك، فضلًا عن شبهة استهداف الطيران الحربي الحكومي لما يعرف بمناطق حواضن الدعم السريع، إضافة لما ينظر إليه كشكل من أشكال العقاب التعسفي الجماعي، المطبق جزافًا بمناطق سيطرة الجيش، على المشكوك في تعاونهم مع العدو، تحت طائلة ما عرف بقانون “الوجوه الغريبة”.

عليه فإن تقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن دخول العمليات العسكرية إلى مناطق الإنتاج الزراعي قد أدى في ولايتي الجزيرة وسنار، لحرمان المزارعين من حصاد محاصيلهم الغذائية، وبالتالي فإن خروج مناطق أخرى من دائرة الإنتاج بدخول العمليات الحربية إليها، سيؤدي لإطلالة شبح المجاعة على مزيد من السكان، في مناطق أخرى بالبلاد، تقدرهم المنظمات بنحو خمس وعشرين مليونًا.

لكن “المجاعة”، لمَ ينكرون وجودها؟!

فهناك ما ينبغي أن يحذره أشقى ثمود السودان

عرف السودان دائمًا المجاعات تأتي في زمن الديكتاتوريات والعهود الشمولية، وكعادتها تذهب مثل هذه الأنظمة والدول البوليسية لإحاطة كافة أمورها بالسرية والكتمان، خشية من أعين الصحافة الفضولة، ومن الأنوف الطويلة، لوكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية المعنية، بالحروب، والأمراض، والمجاعات، وبكل ما يتصل بحقوق الإنسان، تلك المنظمات التي تمهد بالضرورة لتدخلات ما يسمى بالمجتمع الدولي، الذي هو شر غائب ينتظر في عرف مثل هذه الحكومات، الحريصة على ستر عوراتها الكثيرة والكبيرة، وعلى الاستفراد بشعوبها المغلوبة على أمرها بعيدًا عن تطفل ومراقبة الآخرين.

ويقول التاريخ في السودان: أن مثل هذه الأنظمة، لا تعلن في العادة عن بلدها منطقة كوارث، أو طوارئ، مهما كان سوء الوضع والأحوال والمنقلب.

لكن تاريخ هذه البلاد نفسه يقول أيضًا: إن كل المجاعات التي حلت بالسودان لم تذهب إلا ومعها في رحلة إيابها، ذات النظام المكابر الذي رفض الاعتراف بها، أو أن يعينه المجتمع الدولي عليها.

إذن فليتعظ ويحذر رئيس الأمر الواقع، الذي اعتبر أن هذه المجاعة “محض افتراء”، ووزير إعلامه الذي وصفها تقليلًا من شأنها كقدر كبير، بأنها مجرد “شظف عيش”.

فإن الحكمة الإلهية ظلت تقضي في تاريخ السودان، بمثلما قضت على امرأة حميرية، رمى بها جوع هرة، لم تطعمها، ولم تتركها، لتأكل من خشاش الأرض في النار.

لكن ترى إلى أي جحيم سيقذف جوع ملايين وشيك، يطارد شبحه بسرعة البرق، أطفالًا صغارًا، ونساءً ضعافًا، وشيوخًا أكل عليهم الدهر وشرب، من سمر البشر “أصل البشرية”، بشقي، انبعث فيهم كانبعاث أشقى ثمود، في آخر عهد “إخواني” لا محالة مندثر، فأشقاهم بحرب لا تبقى ولا تذر، وبجوع أحال نعيم حياتهم إلى كدر، وبأمراض سرت بينهم، كسريان النار في هشيم محتضر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى