اللبس الكاجوال وعدم المصافحة.. أجساد “الخواجيات” وصراع القيم 

علاء الدين بشير
علاء الدين بشير

انشغلت وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي نهاية الأسبوع الماضي بعدم مصافحة القائد السوري أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية، انالينا بيربوك التي زارت دمشق رفقة نظيرها الفرنسي وبلباسها الكاجوال أكثر من انشغالها بنتائج الزيارة نفسها .

 وبما أن الديبلوماسية هي الوجه الآخر للسياسة فقد انطوى 

مظهر الوزيرة الألمانية على رسالة قوية مؤادها عدم الاعتراف الكامل بالوضع القائم في سوريا حسب البروتوكولات الألمانية، كما عبر عدم المصافحة لها عن عقيدة المسؤولين الجدد في دمشق ونمط تفكيرهم وانعكاس ذلك على التعامل المستقبلي وصيانة المصالح الغربية في المنطقة .

 لكن خلف الظلال يتجاوز الحدث الرسائل الديبلوماسية وينطوي على صراع قيم قديم ومتجدد، فبالإضافة إلى أن بيربوك أوربية تمثل بلدا رائدا في القيم الغربية الليبرالية فهي كذلك امرأة وتبدو شابة وتمتلك معلومات كافية قبل وصولها دمشق عن القائد السوري أحمد الشرع وجماعته وخلفيتهم الدينية الإسلامية السلفية المحافظة جدا بخاصة في جانب تعاطيهم الشخصي والفكري مع قضية المرأة، وتعلم انه لن يصافحها، وإذا كان عدم المصافحة في العرف الديبلوماسي عموما يعتبر إهانة فإنه في القيم الغربية للمرأة لكونها فقط امرأة يفهم على انه إهانة أكبر لها وزراية بها وعدها شيئا من الرجس الذي ينبغي تجنبه، لذلك في تقديري انتقاء ملابسها الكاجوال كان الغرض منه أيضا منازلة تلك المفاهيم السلفية في عقر دارها ومعركة صامتة بين قيم الحداثة الليبرالية الغربية والفهم الاسلامي السلفي.

وثمة بُعد نفسي آخر في الأمر وهو أن الغربيين يرون في المسلمين مجتمعات مكبوتة ومهووسة بالجنس وإن ذلك واحد من الأسباب الرئيسية لمشاكل تخلفهم الفكري والاجتماعي، وأنهم بما في ذلك قادتهم يرتبكون في مواجهة الجسد الانثوي الحر الطليق لأن بنية وعيهم قائمة على الوصاية الغليظة على جسد المرأة وكذلك على عقلها وتقع ردود فعلهم إزاء هذا التحرر في حيزين إما الضعف والخوار امامه أو رفض التعاطي الايجابي معه بحيوية عقلية وقوة خُلقية.

 ووفقا لكل هذه المعرفة جاءت الوزيرة الاوربية في زيارتها الاستكشافية الأولى وإلى جانب المباحثات الرسمية العامة من المؤكد انها كانت ترصد ردود فعل الشرع السايكلوجية المُعَبَر عنها بلغة جسده إزاء مواجهته للطلاقة الجسدية والحيوية الفكرية للسيدة الأوربية الجالسة امامه، ونتيجة لرصدها هذا هناك جانب مهم ستقوم عليه عملية عميقة لتحليل شخصيته ومساعديه من أجل وضع الاستراتيجيات المثلى للتعامل معهم .

نفس هذه الرؤية القيمية الصدامية هي ما كانت قد حكمت زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد إدارة الرئيس الأسبق بل كلينتون، مادلين اولبرايت في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي حينما هبطت في الخرطوم للقاء قادة النظام الاسلامي المتشدد الذي استولى على السلطة في البلد الإفريقي الفقير وتوجيه رسالة تحذيرية لهم من أن بلادهم صارت مأوى للجماعات الإرهابية.. حكت اولبرايت تفاصيل زيارتها تلك في كتاب مذكراتها الموسوم (الجبروت والجبار.. تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية) ونشرت فيه صورة لقائها مع الرئيس المخلوع عمر البشير بالقصر الرئاسي.. لم تكن الوزيرة الأمريكية ترتدي ملابس كاجوال كنظيرتها الألمانية المعاصرة ولكنها كانت ترتدي مع البدلة الفورمال إسكيرت قصير جدا قياسا باللباس الرسمي للمسؤولات الغربيات الأخريات وازداد قصرا حينما جالست البشير وجها لوجه ووضعت رجلا فوق رجل ليرتفع إلى فوق ركبتيها كثيرا.. بدا البشير الذي كان فتيا وفي نهاية الأربعينيات من عمره تقريبا ويرتدي الزي العسكري ويضع غطاء الرأس جانبا ويستعمل عصا خشبية، في الصورة التي نشرتها بالكتاب عن لقائها به منكمشا على نفسه ومنزويا داخل الكرسي الرئاسي الضخم والوثير ولا يُعرف إن كان ذلك بأثر الصدمة من جسد الوزيرة الأمريكية الطليق أم لحداثته في السلطة وعدم معرفته الكافية بقواعد البروتوكول الرئاسي؟

 بالطبع صافح البشير اولبرايت وبحرارة على عكس القائد السوري احمد الشرع، وهو ما أرجح انه السبب الذي ترك عندها انطباعا جيدا نسبيا عنه حيث أشادت باستقباله الحسن لها ولم تصفه في الكتاب بأي وصف سيء بل كان حديثها عنه أقرب إلى الغزل حينما وصفت شكله وحديثه معها ونعتته بالوقار ولم تتعرض مطلقا لاصوليته وإنما تحدثت عنه كضابط جيش تقليدي وصارم. ولكن رغم انطباعها المريح عن البشير فقد كشفت عن رعبها الشخصي من نظامه (الاصولي المتشدد) حينما قدمت لها الضيافة الرئاسية الرسمية عصير الكركدي الذي وصفته بـ(مشروب زهري له قوام الشامبو) فقد أعربت عن خشيتها من احتمال أن يكون مسموما وقالت إنها ترددت في شربه خاصة وان البشير ومساعديه لم يشربوا منه وكانوا ينظرون لها فقط ولكنها قررت في الاخر طرد هواجسها واحتسائه نزولا عند مزحة كانت تبثها بين زملائها وهي بما أنها رئيسة الديبلوماسية الأمريكية فجزء من مهمتها وواجبها هو الاكل والشرب خلال تجوالها في العالم إنابة عن دولة وشعب الولايات المتحدة! قالت إنها أخذت منه رشفة واحدة ولم تبلعها وللمفاجأة وجدت طعمه لذيذا يماثل مذاق مشروب امريكي شهير .

 للمفارقة ان اولبرايت لم تخرج بانطباع جيد ومريح عند لقائها بالدكتور حسن الترابي، رحمه الله. فقد وصفته بانه (شخصية نارية) وقالت انه يتحدث اكثر من ما يستمع وانه محشو بالمرارة تجاه أمريكا والغرب لأنهم لا يعيرونه الاهتمام اللائق والكافي ويطلقون أحكامهم دون تحر وتثبت. لم تشر الوزيرة الأمريكية إلى اي شيء عن قدرات الترابي الفكرية بل ولم تنوه حتى لمقدراته في اللغة الإنجليزية ولم تعط لقائها به في كتابها الحيز الذي اعطته للقائها بالبشير .

ورغم كل ذلك فإن صراع القيم هذا مقيد بشيء من الاعتدال عند المسؤولين الرسميين الغربيين من النساء لاعتبارات بروتوكولية رسمية ولكنه عند الصحافيات الغربيات مثلا يأخذ هذا الصراع الحضاري  بعدا اكثر جرأة وحدة واسطع نماذجه يتجلى في اللقاء الشهير الذي أجرته أشهر صحافية في العالم الإيطالية الراحلة، اوريانا فالاتشي مع مرشد الثورة الإيرانية، الإمام الخميني بعد فترة قليلة من نجاح الثورة عام 1979 وحكت عنه في كتابها الشهير (مقابلات مع التاريخ ورجال السلطة) .

عرفت فالاتشي بانها من حراس القيم الليبرالية الغربية الاشداء وبهذه الخلفية دخلت على الإمام الخميني.. كانت غاضبة جدا لأنهم اضطروها للانتظار عشرة أيام كاملة في مدينة قم المقدسة حتى وافق الخميني المستريب من الصحافيين الغربيين على إجراء المقابلة معها. وما فاقم غضبها أنها اضطرت أيضا للانصياع الصارم لتعليمات مساعدي زعيم الثورة الإيرانية ومرشدها ووصلت إلى مقر إقامته حافية القدمين واضطرت إلى تغطية كامل جسدها بـ(التشادور) لباس النساء الإيرانيات التقليدي الذي غضبت جدا اول مرة حينما تم الزامها به واضطرت للقبول نظير قضاء ساعة مع الزعيم الإيراني محط أنظار العالم كله في ذلك الوقت .

واجهت فالاتشي الخميني بوابل من الأسئلة الغاضبة والجريئة في الوقت نفسه عن الحريات الصحافية والسياسية وعن إعدام المومسات والازواج الخائنين لبعضهم وعن حقوق النساء ومكانتهن التي قضت عليها الثورة وكان يجيبها بتبرم وجرأة أيضا من منطلق قيم الثورة الاسلامية دون تذويق أو تجميل.. ثم طرحت عليه سؤالا مباغتا ومستفزا: كيف يمكنك أن تسبح وانت ترتدي التشادور؟ 

أجابها الخميني بغضب واستفزاز: ملابسنا ليست من شأنك. لا علاقة لكم أيّها الغربيّون بعاداتنا. وإذا لم تكوني تحبّين لباسنا فلست ملزمة بأن ترتديه، لأن اللباس الإسلامي للنساء المحترمات”.

قالت فالاتشي أنها أحست بغضب واختناق لأنها عوملت باحتقار وازدراء واضحين .

فقالت: “شكرا لك يا سيد انت رجل مهذب وبما انك قلت هذا فسأخلع هذه الخرقة القروسطية السخيفة الآن”. وفي الحال خلعت فالاتشي التشادور وألقت به على أرضية الغرفة وبدت بملابسها المتحررة جدا.

قالت فالاتشي معلّقة على ما حدث: ما أن خلعت التشادور حتى نهض الرجل بخفّة. وبقفزة تشبه حركة القطط، داس في طريقه على التشادور ثم اختفى. واضافت: “لكن كان على الانتظار ثمان وأربعين ساعة أخرى كي أراه ثانية وأختم المقابلة معه”. وذكرت انه في المقابلة الثانية كان الخميني ينظر إليها باندهاش شديد من جنونها على الأرجح ثم ما لبث أن ابتسم ثم ضحك فضحك جميع مساعديه وحراسه في القاعة .

وفيما اظن ان لقاءات النساء الغربيات الليبراليات بالقادة الدينيين في العالم الإسلامي مدفوعين بالوعي الاستشراقي الغربي كما فككه إدوارد سعيد ومستخدمين نعومتهن الأنثوية وغلظتهن في الآن ذاته هو امتداد لبعثات المستشرقين الغربيين للعالم الاسلامي خلال القرنين الماضيين وللنظرة الاستشراقية الفوقية للمجتمعات المسلمة .

حكت لي الأخت الجمهورية الأستاذة سامية صديق في مدينة ايوا سيتي بأمريكا، ان امرأة خواجية شابة زارت الأستاذ محمود كباحثة وأجرت معه لقاءً وكانت ترتدي رداء قصيرا (شورت) وقميصا بأكمام قصيرة وتنفث دخان سيجارتها في وجه الأستاذ محمود وهي تتحدث معه وكان هو مستغرقا في الحديث معها بكل اهتمام وتقدير لشخصها دون أن يبدي اي نأمة ضيق أو تبرم من سلوكها أو مظهرها بينما كانت مجموعة الاخوات الجمهوريات اللائي كن بالمنزل وقتها يقفن بعيدا وهن ينظرن إليها شذرا من سوء ادبها مع شخص في قامة الأستاذ وعمره.. خرج الأستاذ من الغرفة وبرفقته الخواجية ولكن استمر حوارهما في فناء المنزل وهي تستمر في نفث دخان سيجارتها في وجهه وهو يحاورها بهدوء.. هنا استبد الغضب بالإخوات من سلوكها ولكن عصمهن الأدب من التدخل والاعتراض.

قدم الأستاذ ضيفته حافيا إلى خارج المنزل وحينما عاد إلى الداخل قال للاخوات: “اعملوا حسابكم لو ما مسكتوا في فكرتكم دي بقوة سيأتي هؤلاء القوم الأذكياء جدا ويفوتوكم”. أو كما قال، ثم دخل غرفته دون أن ينبس بأي نقد لتلك المرأة!.

علاء الدين بشير – الشارقة 

5 يناير 2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى