لا ملصو ليك التيلة ولا باعو ليك الجزيرة
حكايات الفتى معاوية نور!!
(1)
الصبي معاوية نور، الذي بكى عند المشرحة، عند رؤيته الجثث، في مستشفى النهر، وهو يدرس الطب، وقد جاء الأول في الفصل نهاية العام، كعادته المتعبة، الذكاء الوقاد، والحس المرهف، في كلية كتشنر الطبية، قبالة السكة حديد، من باب “ذو العقل يشقى في النعيم”، فقد حارب في عدة جبهات، رغم غضاضة تجربته، عاند الأهل، وحارب وصاية الإنجليز، وسخر من رتابة الرأي العام، كان الله في عونه، ليته مثل تماثيل آلهة الهنود، بستة أيدي، كي لا يطفف ميزان العداوة، بين فتى أغر، ومجتمع قديم، كبير، وتخسر الحياة رائدا عجيبا، جر نواصيها لنور الفكر وضياء العاطفة.
ترك الدرس بعد شهور من تألقه هذا، ومضى يبحث عن نفسه، رغم جنة عدن الطب، ألا يدل هذا، أن هذه النفس خلقت لأمر ما؟ هي نفسها لا تملك منه فكاكا، شيء يمور في دخيلته، (جمل الشيل ما بشيلهو الويكة)، مخاض عظيم، في جسم أسمر، نحيف، حتى أصبحت حياته القصيرة، أويقات طلق، لميلاد أمشاج وعي مورث، ومكتسب، حتى أصبح كأنه ولد متعجلا، قبل ميلاده بمائة سنة، من ميلاده الحقيقي، أي أنه ابن اليوم، إن لم نقل ابن الغد، دون أي إحساس بمبالغة، بل تقصير.
اندلق معاوية، كالشلال، كأنه يعرف إن حصته في الحياة، قصيرة كبرق، ومضيئة مثله، شعاب الهم والأمل والطموح الإنساني، كله، فتقطرت نفسه إبداعا أدبيا وفكريا فريدا، في خمس سنوات يتيمة، هي مشروعه الإبداعي، مغردا في سموات، بلا نصير، وحده، في غربة، قل نظيرها، للبون الشاسع بينه، وبين أهله، وبيئته، ونفسه القلقة، الفذة، التي تعبت بمرادها الأجسام، حتى قلب أمه الطاهرة، أو أخيه شرحبيل، في حي الموردة العريق، أو صديقه عشري، وعطية، والمحجوب، كلهم تعبوا، لتعبه، وهو لم يلتفت سوى لنداء الشمس، فراشة سمراء، نصبت لها شمس عظمى، فشمرت تحلق حولها، وفي قلبها، حتى امتزجت فيها، عين زرقاء اليمامة، لا تفرق بين شمس فكره، وروحه، التي سكبها في حروف وسطور.
كانت خالته، أخت والدته الطاهرة، حين يتبختر أخوه المرح جدا “شرحبيل”، في الحوش الطيني، غرب دار الرياضة، تصيح فيه “قايل روحك منو؟ لا ملصوا ليك التيلة، لا باعو ليك الجزيرة”، وهي تعني حب الأم للابن النجيب، معاوية، الذي سافر إلى بيروت على حساب أمه، بعد أن رفض الإنجليز، إلا أن يدرس الطب غصبا، فولى الأدبار، بعد عنت، وعناد عظيم، مع أهله، وصحبه، حتى ركب السفين، في طريقه لمدينة الجبال والأزر، وجبران، والجامعة الأمريكية، ومكتبتها الغراء، حيث عظام الأدباء، والمفكرين، أصحابه الكثر، ولمثلهم يشد الرحال.
الحكاية التالية:
معاوية وشرحبيل وكيس الصعود.