“الاحتطاب” يثقل كاهل “عيوشة” وصويحباتها

يدلف الكثير من النازحين في قرى المناصير دون سن15
عاما إلى سوق العمل بمداخيله الشحيحة ومشاقه الجمة

يستقبل مستشفى القرية (ستة) حوالي 20 حالة التهابية شهريا جراء الإصابة بأشواك المسكيت

نهر النيل – لبنى عبد الله

بعد الوصول من رحلة الاحتطاب القاسية، تقوم “عيوشة” ورفيقاتها بإعادة ترتيب ورص الحطب وعرضه للبيع أمام المنازل، أو استبداله بحفنة سكر من الدكان. تقول الفتاة اليافعة التي أرهقتها رحلة النزوح لـ”أفق جديد”: “نبيع (الفزعة) -أي حزمة الحطب- بمبلغ 500 جنيه. ده إذا لقينا زول يشتريها”. تدرك “عيوشة” بالضرورة أن العائد المتوقع من حزمة الحطب ضعيف وبالكاد يسد الرمق. تسارع بتفسير واقعها الاقتصادي ببصيرة خبير في الحقل: “السكان هنا نازحون وفقراء. يضطرون إلى شراء الحطب لإنضاج الطعام ونحن نقتات من فتات ما تجود به مداخيلهم”. تتوسم خيراً في المنظمات الإنسانية والخيرية لمساعدة سكان قرى “المناصير” التي تعيش أوضاعًا مأساوية وتفتقر لأبسط ضروريات الحياة.
الجائل بين طرقات القرية (6) بقرى المناصير في محلية الدامر شمالي السودان، سرعان ما يكتشف سوء أوضاع النازحين بسبب الحرب، وارتفاع نسبة الفقر؛ إذ لا توجد مصادر دخل للسكان.
وتستأثر حرفة جمع الحطب من أشجار المسكيت الشوكية، وبيعه بأسعار زهيدة، باهتمام النساء والأطفال هنا، رغما عن ضعف العائد.
إبان زيارتنا لمسنا عن قرب مُعاناة السكان مع الأمراض والأوبئة، وتردّد الحالات الالتهابية إلى مستشفى القرية الناجمة عن انتشار عمالة الأطفال والإصابة بالأشواك السامة.
القاصد لقرى “المناصير” من أي ضاحية من ضواحي عطبرة يعرف موقف المركبات التي تنقل ركاب القرى المرقمة (بالقرية 2 والقرية 6). تقع تلك الأحياء بمحلية الدامر، وتبعد من مدينة بربر أكثر من 35 كيلو متراً.


شُيدت قرى المناصير، إبان قيام سد مروي بواسطة إدارة السدود في عهد النظام السابق، لكن أهالي المناصير أصروا على بقائهم حول البحيرة؛ وظلت تلك المساكن خاوية ليتم ترحيل النازحين القادمين من ولاية الخرطوم والمقيمين بالمدراس بمدينة عطبرة قسريا للإقامة بها بواسطة والي ولاية نهر النيل .
تتراص المركبات القاصدة لقرى المناصير بموقف سوق الدامر وتعد القرية (6) من أكبر تجمع للنازحين وينادي الكمسنجية (القرية 6.. يلا أرح.. مقعد واحد). والملاحظ أن المركبة لا تمتلئ سريعًا، ولربما احتاج اكتمال مقاعد العربة إلى ساعة وأكثر؛ ما يشي بقلة عدد السكان أو أصحاب المصلحة في تلك الفيافي.
تصل العربات للمحطة الأخيرة بسوق القرية بعد مرورها بمزارع وأراضٍ جرداء. زهاء الساعة وربع الساعة هو الزمن المقدر للوصول إلى سوق القرية. يبدو المكان فقيرًا في مجمله. تشي بذلك سيماء العابرين وقيمة البضائع المعروضة على الأرض، والتي كساها الغبار.
تصطف عربات “الكارو” التي تجرها الدواب بالقرب من موقف المركبات في انتظار القادمين. سعر الرحلة عبر العربة البدائية إلى المساكن ودور الإيواء يناهز 4 ألف جنيه.
سرعان ما تلتقط أعيننا مشهد مجموعة من الفتيات والأطفال يهمون بالذهاب إلى غابات أشجار “المسكيت”، الجافة بغرض جمع أعواد الأشجار لبيع الجزء الأكبر واستخدام المتبقي في الأغراض المنزلية.
في العادة يهب الجميع في الصباح الباكر، ويتجهون في مجموعات متفاوتة العدد صوب الغابات المكسوة بأشجار المسكيت. في الطريق إلى الغابات كان الكُل يحتمل أدوات القطع من فؤوس ومناجل، فضلا عن الجوالات الفارغة. تقول (عيوشة): “كنت أسكن في الحلفايا مربع (6). درست في جامعة السودان، المستوى الثاني؛ كلية الترجمة (لغات). وعقب اندلاع المعارك نزحت رفقة أسرتي المكونة من (25) فرد إلى عدة جهات شملت الجزيرة، في منطقة ودراوة، وشندي ومناطق أخرى وصولاً إلى عطبرة، حيث أقمنا بدار إيواء، قبل انتقالنا إلى قرى المناصير؛ حيث توجد منازل مشيدة وغير مأهولة بالسكان”.
وتسترسل عيوشة: “بالرغم من عدم وجود كهرباء ومياه صالحة للشرب قمنا بتنظيف المنزل المخصص لنا من العناكب وبعض الأعشاب التي تنبت بصورة عشوائية (الضريسة). وجدنا كذلك بعض العقارب أثناء قيامنا بعمليات النظافة، ولأننا لا نملك قيمة الإيجار اضطررنا للإقامةعلى كل حال”. سألتها عن خبراتها في المجال وما إذا كانت قد مرت بتجربة سابقة في مجال بيع الخشب أو التجارة والكد في طلب الرزق بهذه المشقة قالت: “لا مصدر دخل نعتاش عليه، لذا اضطررت. لا مجال للعمل إلا في غابات المسكيت بجمع الحطب”.


وعندما طلبت منها أن تروي جدول يومها قالت: “في العادة نذهب عقب صلاة الصبح إلى غابات المسكيت عشان نجيب الحطب.. بنمشي مسافات طويلة من بيوتنا راجلين ونقطع الترعة.. نسير وأشعة الشمس تملأ المكان. لا ظل بخلاف شجيرات شوكية قصيرة. لا نرى غير السراب والأرض الجرداء. المسافة إلي غابات المسكيت تبلغ حوالي 5 كيلومترات، ويستغرق زمن الوصول إليها حوالي الساعتين.. نصل بعد عناء منهكين، فيجلس الكل وقد أخذ العطش والتعب منهم.. ليس ثمة مصدر للمياه.. يتوزع الجميع على أشجار المسكيت الشوكية الجافة ويبدأون في عمليات القطع الشاقة والطرق عليها وصولا إلى كسرها حتى تسقط.. لاحقا يقوم المحتطبون بالإمساك بالأغصان الجافة وتكسيرها ورميها في الأرض في شكل حزم متراصة”.
رصدنا عملية التكسير الشاقة والمتعبة، ورغم ذلك لا تسقط كل الأشواك لانتشارها بصورة كبيرة، ما يجعل الكل عرضة للإصابة بشكل يومي. في العادة نسمع صرخات الأطفال المتوالية وهم يشكون ألم الشوك. رصدت إحدي المرافقات وكانت تحمل إبرة خياطة تحسباً لهذه اللحظة، وبالفعل سارعت لمساعدة أحد هؤلاء المصابين بمهارة. نزعت الأشواك من أصابع يديه بيد أنها تركت باقي المهمة للمسعفين المحترفين في المستشفى لحين الوصول إلى هناك، ثم نصحت الطفل المصاب: “تاني ما تقطع. أقعد هنا وبعد نرجع نغشى المستشفى عشان يطلعوا ليك باقي الشوك الما لقيتو”. لم تنس في غمرة انشغالها بمهمة الاسعافات الأولية أن تروي لنا حكاية العم آدم. تقول بأسى: “مسكين والله. عندو سكري وكان بيجي الحطب كل يوم لغاية ما دخليت ليهو شوكة في رجله. اتسمم والدكاترة قطعوا ليهو رجله”.
رافقنا محمد إبان رحلة العودة إلى مستشفى القرية (6). تقول دكتورة هالة إبراهيم أحمد إنهم يستقبلون حوالي 20 حالة التهابية شهريا في المستشفى، إثر الإصابة بأشواك أشجار المسكيت، والتي تنجم عنها جروح متفاوتة خاصة وسط الأطفال.
وتسترسل هالة في حديثها لـ”أفق جديد”: “بعد استخراج الأشواك يأتي المصابون للغيار يوميًا. لدينا قرابة 6 ألف طفل بمرحلة الأساس من بين عدد السكان البالغ عددهم 32 ألف نسمة، وهم في ازدياد مضطرد منذ نكبة شرق الجزيرة”.
من ملاحظات هالة التي دوّناها على لسانها قولها إنّ سوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع نسبة الفقر يدفع الكل لتناسي أضرار عمالة الأطفال. كثيرون هنا دون سن 15 عاما يدلفون إلى سوق العمل بمداخيله الشحيحة ومشاقه الجمة.
وشكت هالة من استغلال التجار والمزارعين للأطفال في الأعمال الشاقة ومنحهم أجوراً زهيدة جداً مقارنة بما يبذلونه من مجهود، قبل أن ترسل مناشدتها لمنظمات العون الإنساني برجاء مساعدة هؤلاء المحتاجين من قاطني قرى المناصير، وقالت إن أوضاع السكان بالقرية لا تجد التغطية الإعلامية الكافية لعكس أوضاع النازحين”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى