الجبلين تنازل الخطوب والكوليرا

تروي أضابير وسجلات المدينة أكثر من

1300 حالة إصابة بالكوليرا بينها

90 حالة وفاة 

الجبلين – أحمد مضوي

بعد أسبوعين من وصولها إلى أسرتها الممتدة في مدينة “الجبلين”، اكتملت إجراءات عقد قرانها مع شقيقها. لاحقا وصل زوجها هو الآخر وشرعا في تحديد مراسم ومواقيت الزواج. في غمرة انشغالاتهما بالتفاصيل أُصيبت بوباء “الكوليرا”، وأُسعفت إلى المُستشفى. ساعات بعدها وعم النبأ الأليم أرجاء المكان؛ خطف الوباء اللعين العروس، نوال عبد الحي، التي جاءت من “المزموم” لتوها، أعقاب سيطرة قوات “الدعم السريع” على أجزاء واسعة من ولاية سنار في يونيو الماضي.

يروي الزوج المكلوم لـ”أفق جديد” عن مصابه الأليم: “جئت لأزفها بالزفاف، لكن إرادة الله كانت نافذة واختارت لها الكفن”. يقول الرجل وهو يذرف الدموع بعد أن فقد عروسته بعد أسبوعين من عقد قرانهما، بسبب تفشي وباء الكوليرا، بمدينة “الجبلين” (70) كيلو متر جنوب مدينة ربك حاضرة ولاية النيل الأبيض.

الشاب نوح حسن أحمد (30 عامًا)، بارح الفانية بذات الوباء، فور دخوله إلى المستشفى. كان نوح يتمتع بصحة جيدة، في اليوم الأول عند دخل المستشفى، وظل يضحك ويسامر أصدقائه، لكن فجأة تدهورت حالته الصحية، وبدأت الأخبار تتسرب بتأخر حالته الصحية، وفقد شهية الطعام والشراب، وصوته اختفى وتغيرت معالم وجهه. عند الرابعة عصرًا فاضت روحه، لتخرج مدينة “الجبلين” في موكب مُهيب لتشييعه إلى مثواه الأخير، وسط صرخات الأمهات الثكلى.

عند بداية تفشي المرض، غابت إرشادات غسل الموتى ودفنهم، وجميع الحالات كانت تصل إلى ذويها دون تعقيم، ما أدى إلى تفشي الإصابات لعدد كبير من الأشخاص، بل أودت بحياة الحاجة “ونيسة”، المرأة المشهورة في مجتمع مدينة “الجبلين”، التي قامت بغسل ابنة أخيها، وبعد خروج الجثمان أُصيبت بالوباء وفارقت الحياة في ذات اليوم.

وظهرت أولى حالات الإصابة بالكوليرا داخل مدينة الجبلين في يوم الخميس الموافق 24 أكتوبر الماضي. يومها انتشر الخبر سريعًا في جميع أحياء المدينة. في اليوم التالي سجلت المنطقة حالتين جديدتين، بينهما حالة وفاة. في السبت بدأ الوباء يتوغل وينتشر في الأحياء الجنوبية من المدينة، في ظل عدم الوعي وقلة الكوادر وضعف الإمكانيات وتردي بيئة العمل وغياب المسؤولين.

يوماً تل الآخر كان الوباء يستفحل، وسرعة انتشاره تزيد. أصبحت الحالات تترى تلقاء مركز العزل بمستشفى الجبلين التعليمي من كل حدب وصوب؛ عشرات الحالات ومئات المواطنين يتداخل بينهم صوت البكاء والعويل.

الذهول سيد المشهد والرهبة تكسو وجوه الجميع؛ كأنهم أجمعين على موعد مع الموت في ظل النقص في المحاليل والأدوية. ظلت الحالات تأتي محمولة على عربات “الكارو” والركشات والسيارات الصغيرة والدرداقات وحملًا على الأكتاف. ومع توالي التردد وتوافد الحالات كانت تتزايد أعداد الوفيات.

وتروي أضابير وسجلات المدينة أكثر من 1300 حالة إصابة بالكوليرا بينها 90 منها حالة وفاة، لكن استقرار الوضع الصحي بات اليوم العنوان الأبرز بعد انجلاء ذروة المرض، وتمكن السلطات الصحية من السيطرة على الوباء.

وفي أغسطس 2024 أعلنت السلطات الصحية الاتحادية عن تفشي وباء “الكوليرا” في ولايات القضارف وكسلا ونهر النيل.

فيما تم الإبلاغ عن أكثر من 47365 حالة في 18 منطقة في ديسمبر المنصرم، مع ما يقرب من 1335 ضحية.

ويكشف تفشي الوباء حالة الإهمال والقصور الإداري لسلطات محلية الجبلين التنفيذية والصحية، خصوصاً في ظل حالة التراخي في بداية ظهور الوباء، فضلاً عن قلة الإمكانيات وتدهور البنية التحتية للمؤسسات الصحية وضعف الكادر الطبي، حيث افترش المرضى الأرض والتحفوا السماء في بداية الوباء.

وكانت معظم الحالات تأتي من أحياء “الكسارة” “الحلة الجديدة” “جوبا” “مربع واحد” و”سوق البصل” وهي أكثر الأماكن في تردي للبيئة، وتنعدم فيها المياه الصالحة للشرب لذا لجأ الأهالي لشرب المياه من البرك والخيران المتواجدة بمحيط الجبل وتحت كبرى “الكجم”.

و يقول المواطن محمد موسى، لـ”أفق جديد”، إن “الحلة الجديدة تُعتبر من الأحياء الجديدة وقامت بدون مقومات للحياة رغم وجود النيل على بعد أمتار”، واصفًا الوضع بالصعب، وأشار لوجود السلخانة بالمنطقة، وزاد: “يشرب جميع سكان الأحياء الجديدة من مجاري الخريف وحفر التراب والجمامات. السلطات مقصرة ولا تهتم بخدمتنا”.

وبالنسبة لمدير الخدمات الصحية بمحلية الجبلين د. معتز مكين فإن مسببات وباء “الكوليرا” تنتقل بواسطة المخلفات الآدمية (البراز) “وأغلب سكان تلك الأحياء يتبرزون في العراء”، كما يقول. 

وأشار مكين إلى انعدام مصادر المياه النقية، مستطرداً بالقول: “وجهنا فرق إصحاح البيئة وتعزيز الصحة الوصول إلى تلك المناطق الموبوءة”.

وكانت السلطات الأمنية وبعض المكونات الاجتماعية بمدينة “الجبلين” قد استشعرت الخطر، وعقدت اجتماعاً بمركز شباب المنطقة لتسمية لجنة لإسناد لجنة الطوارئ. وعلى إثره تحرك الجميع مع غياب المدير التنفيذي للمحلية، في وقت تنعدم فيه الكهرباء والمياه والاتصالات في مدينة لأكثر من 3 أسابيع حيث يلجأ الناس لشركة بشائر لعمليات البترول أو منظمة أطباء بلا حدود لجهاز “استار لنك” الممنوع من السلطات الأمنية بالمدينة.

 وبعد اجتماعات تدخلت منظمة “أطباء بلا حدود” وقامت باستنفار جميع كوادرها في غرب النيل في المعسكرات وربك بل استجلبت إمكانياتها من أسِرّة وخيام ومعقمات ومحاليل وريدية ثم اتسعت المشاركة ليتدخل أطباء المدينة والكوادر الطبية وتستجيب وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية بولاية النيل الأبيض للطلبات المتزايدة للمحاليل الجلوكوز والمعوض وملح التروية حيث بدأت الملحمة ولكن كان الوباء قد تفشى على نطاق واسع.

ولضمان محاصرة الوباء يقول رئيس لجنة إسناد لجنة الطوارئ الصحية، إبراهيم حامد بشارة، لـ”أفق جديد”، إن لجنته هي أولى الجهات التي بلغت بالحالة الأولى، وكانت تشعر بالقلق الشديد في حالة عدم التعاطي والاستجابة السريعة”. وأضاف، “أبلغنا السلطات منذ وقت كافْ ولكن الاستجابة جاءت متأخرة”، مضيفاً بشيء من العتب والملام: “إذا اهتمت السلطات لما وصل الوضع إلى ما وصل إليه حاليًا”.

ويسترسل إبراهيم بالقول إنه ومع تفشي الوباء وظهور بعض المسؤولين “تحركنا تحركات مكوكية للسيطرة من خلال إغلاق النيل ومنع الاستحمام على الشواطئ، كما تم التنسيق مع أحد الشباب لعمل طلمبات لجلب مياه الشرب مع توزيع الكلور في جميع عربات “الكارو” ثم تنظيم حملات توعية وتثقيف صحي وحث الكوادر الصحية للعمل”.

من جهته يقول مدير وحدة الجيلين الإدارية، محمد سليمان، لـ”أفق جديد”، إن الإدارية قامت بإغلاق الأسواق ومحاربة المرض، ومنع تجارة اللبن والعصائر، ورش أماكن التجمعات السكانية والبرك وأن إدارة مشروع النظافة تقوم بعمليات واسعة للإصلاح البيئة.

وبالنسبة للكثيرين فإن باء الكوليرا بمدينة “الجبلين” كشف المستور وأظهر التردي الإداري وانهيار المنظومة الصحية برمتها، ولكن كان لتدخل منظمة “أطباء بلا حدود” الأثر الكبير في السيطرة على الوباء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى