الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج.. ولكن لمن؟!

عبده الحاج
عبده الحاج

عبده الحاج

طالعت مقالًا متداولًا للدكتور النور حمد بعنوان (الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج)، ود. النور من طلائع المثقفين في البلاد، وتجدني اتفق معه كثيرًا فيما يقدم من طرح، ولكني أجد أني أختلف معه بصورة كبيرة في مقاله هذا، ولكن دعني أبدأ بنقطة اتفاق بيننا وردت في المقال، وهي أن الكيزان يحددون هدفهم بوضوح، ويسعون إلى تحقيقه بشتى السبل، وهو صحيح، ولكن ذلك ليس السبب الوحيد لبقائهم في الحكم طوال الست وثلاثين عامًا الماضية، أو لتحكمهم في الأنظمة السابقة، وفي الشارع السوداني، فإضافة لوضوح الهدف، والتصميم، فهم يعرفون كيف يسخروننا لخدمة أهدافهم، عن طريق ابتزازنا العاطفي، ودغدغة مشاعرنا، أو إثارة الحنق، والكراهية في نفوسنا، فالشعب السوداني بالنسبة إليهم كوادر في التنظيم الشيطاني، ويطلقون عليهم (م. ن) وهي اختصار لمغفل نافع.. وهي كوادر يستغلونها عن طريق تضليلها لغير مصلحتها (مغفل)، وإنما لمصلحتهم هم (نافع)، وقد مارسوا ذلك معنا مرات يحصيها العد، ولكن أذكر منها ما تعودوا على فعله في الحكومات السابقة من خلق ضائقة معيشية عن طريق تخزين، أو إتلاف السلع لخلق ندرة وغلاء، وقد فعلوه خلال الفترة الانتقالية مصحوبًا بحالة من انعدام الأمن صنعوها بمهارة، يضاف إليها حملة تشويه للمكون المدني (قحت في وقتها)، ليحركوا قطاعات ثورية معينة لتنادي معهم بإسقاط حكومة الفترة الانتقالية، وقد استغلوا نفس الفئات للتنديد بالاتفاق الإطاري، وبشيطنة القوى المدنية والدعم السريع بعد اندلاع الحرب، ثم قاموا خلال فترة الحرب بالعديد من الممارسات لدفعنا دفعًا للارتماء في أحضان الدعم السريع، الذي رغم انتهاكاته، كان يبدو أفضل خيار (إن اضطررنا للاختيار بين الصنوين المختصمين)، بل روجوا لتلك العلاقة غير الشرعية قبل أن يبرز في الساحة من ينادون بها علنًا!! فوضوح الهدف عند الكيزان، والتصميم على نيله، لا يكفي وحده للسيطرة علينا، إن تحلينا بالفطنة والوعي الكافيين، وقدمنا مصلحة البلاد على مصالحنا، مما يجعل من الصعب عليهم تغفيلنا واستغلالنا.

لا أعتقد أن هروب البرهان بحكومته إلى بورتسودان يشير إلى ضعضعة تماسكهم المعنوي كما استنتج د. النور، فلا يجب أن ننخدع بظواهر الأمور عندما يتعلق الأمر بمخططات ونوايا الكيزان، وإنما تكون القاعدة هي إنهم يفوقون سوء الظن العريض، فلو تأملنا في الحرب منذ انطلاقها، لوجدنا أنها بدأت بصورة أشبه بـ(المديدة حرقتني)، لافتعال المشكلة، وليس القضاء على الدعم السريع، فهم من صنعوه، ودلت تصريحاتهم، إنهم بعد انفلات الأمر، لا يزالون طامعين فيه، وفي عودته لحضنهم، ولو كانوا ينوون القضاء عليه، لأرسلوا قوة كافية من حيث العدة والعتاد لفعل ذلك، أو لاستخدموا الطيران في المدينة الرياضية في الساعات الأولى للقضاء على المحاربين، كما استخدمه لاحقًا في معسكر طيبة ضد مجندين جدد في معسكر تدريب، بل هم حتى يومنا الحاضر نجد أن نيرانهم مصوبة نحو المدنيين، وليس قوات الدعم السريع، فواضح إنهم بحربهم هذي يستهدفون المدنيين لا الدعم السريع، فهم كما اتفقنا لا ينقصهم وضوح الهدف، ولا شدة التصميم، ولكن للوصول إلى هدفهم الإستراتيجي، يتخذون أهدافًا تكتيكية تجعل منه ممكنًا، إذن فإن هروبهم للشرق هو ضمن الخطة المرسومة، ولذلك نجد إنهم هم الذين استدرجوا الدعم السريع استدراجًا لمدني، وانسحبوا منها تاركين (كعادتهم) كل الأسلحة والذخائر! وعدد من جثث مواطنين من قبائل معينة، وهو عمل ممنهج يقومون به، فهم كلما انسحبوا من منطقة، تركوها بكل عتادها للدعم السريع، ولم يدمروه!! وذلك ليس حرصًا منهم على ممتلكات الشعب، فهم من دمر طيرانهم البنية التحتية كلها، بما فيها الكباري ومحطات توليد الطاقة، فهم كما هو معلوم، يفتقدون للحس الوطني، بل يفتقدون للحس السوي! كما نلاحظ استهدافهم الممنهج لعرقيات معينة في صورة أشبه بممارسات العصور الوسطى، وهو كله عمل ممنهج، وهو ليس بالجديد، والمقصود به تحويلنا من خانة السلمية، لملعبهم الذي يجيدون اللعب فيه، وقد حاولوا ذلك مع الثوار في أيام الحراك في الشارع، بقمعهم المفرط، واستخدام الرصاص الحي، والتصويب على العيون والرقاب، والصدر، ثم كثيرًا ما يفر جنودهم تاركين خلفهم الأسلحة للثوار، لاستدراجهم، ولكن الثوار كانوا من الوعي بحيث لم يبلعوا الطُعم، وهو نهج الثورة التي يجب أن نظل عليه، ونتمسك به، ولا نبلع الطُعم.

لا أعتقد أن من يعارضون فكرة إقامة حكومة غير شرعية أخرى في مناطق سيطرة الدعم السريع، هم (الحيَّةُ الإعلاميةُ الكيزانيةُ ذات الألف رأس)، أو عملاء لدول أجنبية، كما وصفهم د. النور!! بل هم السواد الأعظم من الثوار، الذين تحلوا بالفطنة، واليقظة، ولم ينجرفوا خلف سيل الأحداث الذي صنعه الكيزان، ليدفعونا دفعًا للارتماء في أحضان ابنهم الشرعي، فالحيَّةُ الإعلاميةُ الكيزانيةُ هي صاحبة المصلحة الوحيدة في قيام مثل هذه الحكومة غير الشرعية، لأنها ستضفي عليهم نوعًا من الشرعية، وستمنحهم دعمًا شعبيًا، ما كانوا ليحلموا به، وستقضي بها على أكبر تكتل مدني فاعل في الساحة، وبذلك يكون الطريق ممهدًا لهم لبلوغ هدفهم، وهو ما رآه بوضوح كل من عارض فكرة إقامة حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع، الذين لا يجوز رفع كرباج الكوزنة في وجههم، بل الحق، إن كان يجوز توزيع الاتهامات، فإن المنادين بتحقيق أهداف الكيزان (علم من علم، وجهل من جهل)، يكونون أولى منهم بتهمة الكوزنة، ولكن تبادل الاتهامات والتخوين يصب في مصلحة الكيزان، ولا يجب أن يكون وسيلة نتخذها ضد مخالفي الرأي، وإنما نناقش الرؤى والحجج دون وصف لأصحابها، خصوصًا والكل يعلم أن السواد الأعظم لـ”تقدم” يعارض الفكرة، فهل “تقدم” كيزان وعملاء؟!!

ليطفف د. النور من خطر الانقسام، ادعى إن فصل جنوبنا الحبيب تم بواسطة قرار من الكيزان، فقد قال في مقاله (يعلم جميع السودانيين ماذا فعل الكيزان، حين قرروا فصل الجنوب)!! وهو غير صحيح، فقد حارب الكيزان لعشرات السنين من أجل الاحتفاظ بالجنوب، وثرواته تحت قبضتهم، ولكن الانفصال تم غصبًا عنهم، وكان خيارًا عادلًا، ومبررًا لإخوتنا في جنوب البلاد، ولكن يمكن أن نقول إن الكيزان هم من تسببوا في الانفصال بممارساتهم، وهم من فرطوا في وحدة البلاد، ولكنهم قطعًا لم يقرروا، وهم اليوم على استعداد لتمزيق البلاد لتحقيق ما يستطيعون من أهدافهم، ولا عاصم للبلاد من هذا الشر، سوى التحلي بالوعي اللازم، وتماسك الجبهة الداخلية، فذلك هو صمام الأمان، أما إقامة حكومة غير شرعية في مناطق الدعم السريع، فهو بمثابة تتويج لجهود الكيزان، وممارساتهم العنصرية، وكل ما يقومون به من طباعة عملة وغيره، فهم ساعون للانقسام، ولكن لن يتم لهم ذلك بدونا مساعدتنا (م. ن)، وهو ما من أجله يدفعونا دفعًا لأحضان من صنعوه، ولا تزال عناصرهم في صفوفه، أو يتبادلون الأدوار بين المعسكرين كخائن أو بطل!!

د. النور في مقاله يعتبر أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة السودان، ويصف كل من يعتقد غير ذلك بأنه حالم!! وهو بذلك يُنكر كل ما علمنا إياه تاريخ الحروب الحديث، فما عادت الحروب، هي حروب الملوك التي تنتهي بقتل قائد أحد الجيشين، وإنما قصاراها أن تقود الأطراف المتحاربة لطاولة المفاوضات، بل د. النور لينفر من الحل السلمي، ويشيطن جهود حقن الدماء، وصف التعامل مع المجتمع الدولي برزيلة التسول، التي برأ الكيزان من ساحتها!! فقد قال في وصف جهود القوى المدنية (الكيزان لا يتسوَّلون الحلول لدى المجتمعين الإقليمي والدولي، مثلما تفعل ذلك القوى السياسية المدنية)!! هل أصبح التعامل مع الأسرة الدولية جريمة، أم هي محاولة أخرى لشيطنة القوى المدنية الرافضة لفكرة حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع؟!!! كل المجتمعات الراقية اليوم تتعامل مع الأسرة الدولية، وهو حق، بحكم الانتماء، وليس تسُولًا، فمالكم كيف تحكمون!!

يخلُص د. النور من مقاله الى (إعلان الحكومة الموازية في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع هو الفرصة الوحيدة المتبقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية. وهو الذي سيعجِّل بإيقاف الحرب وفرض خيار السلام)، وأعتقد أن حساباته خاطئة، فقيام حكومة غير شرعية أخرى، سيمنح قدر من الشرعية لحكومة الكيزان، وسيوفر لهم دعمًا شعبيًا ما كانوا ليحلموا به، بل ودعمًا خارجيًا أيضًا، وسيطيل ذلك من أمد الحرب، التي ستتسع رقعتها وتستعر، وسيدفع ثمن كل ذلك المواطن، خصوصًا في مناطق الدعم السريع، فالدعم السريع لم يتمكن من حماية المواطنين في هذه المناطق، فاصبحوا هدفًا لطيران الفلول، بل الدعم السريع غير قادر على المحافظة على الأراضي التي يحتلها عنوة، أو تلك التي ينسحب منها الفلول، ومعلوم أن عودة الفلول إلى تلك المناطق يعني مزيدًا من انتهاكات الفلول، بل إن الدعم السريع غير قادر على السيطرة على منسوبيه، وخصوصًا من يسميهم بالمتفلتين، فهو مليشيا تمارس حرب عصابات، وكثيرًا ما تنسحب لتتوجه إلى مناطق أخرى، ولكن على ما يبدو أن د. النور يعلم ذلك، فهو لا يعول عليهم، ويدعو المدنيين للعمل المسلح، فقد قال في الفقرة الأخيرة من مقاله (الحراك المدني الذي لا شوكة له، ولا أسنان، الذي ينتظر أن ينتزع الحقوق من قوةٍ شرسةٍ وديناميكيةٍ لا تبالي بشيءٍ، كقوة الكيزان، عن طريق الهتاف والمناشدة، حراكٌ حالم.)، فهل ينجح د. النور فيما فشل فيه الكيزان؟

لا شك أن الوضع شائك ومعقد، ويحتاج لأن تتضافر الجهود، وتتشابك الأيادي لإيجاد حل عملي وموضوعي مقبول، ولكن قطعًا ليس الحل المطروح في مقال د. النور، فهو يحل مشكلة الفلول، ويقضي على حلم الثوار، ولكن لحسن الحظ فإن التاريخ مليء بالتجارب البشرية مما يصلح أن يكون حلًا مقبولًا، ومن ضمنها الحكومة الموازية، ولكن في وقتها وبأدواتها ووسائلها، وليست أن تكون مجرد حاضنة سياسية للدعم السريع، أما الكتلة المدنية المسماة بـ”تقدم”، فقد اختارت ميدانها المناسب للعمل اليوم، وأظنها برعت فيه رغم اخفاقاتها الكثيرة، ورغم ما تلاقيه من تخوين، واتهامات، وما تعانيه من انقسامات داخلية، وقطعًا ستطور أداءها، وتجدد أدواتها، متى كان الوقت ملائمًا لذلك، فلندعهم للعمل المدني والدبلوماسي، ولا نخونهم إن لم نقتنع بجهودهم، ولنقدر إنهم يعملون بجد، ولم يكتفوا بمجرد التنظير، ونقد الآخرين.. ولإخواننا المتبنين فكرة الحكومة الموازية قضية، ولكنها قضية لا تخصهم وحدهم، وإنما تخص كل سوداني وسودانية، وفرصة نجاحنا في حل قضايانا، هي العمل المشترك، واليقظة لإبطال كل مخططات الكيزان، ويقينا هم سيختبرون صبرنا بما يذيقونا من ألوان العذاب والمعاناة، فهي آلام المخاض لميلاد صبح جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى