أسبوع الأحداث الجسام
كلمة العدد
احتشد الأسبوع الماضي بمجموعة من الأحداث العظام، التي أضافت تعقيدًا على تعقيد المشهد السوداني، الغارق في فوضى عارمة. تلطخت الأيدى بالمزيد من دماء الأبرياء، وشحنت النفوس بالبغضاء، وغطى الفضاء العام دخان مسموم، ونافخ الكير لا يزال يطمع في المزيد. ولعل أبرز تلك الأحداث معاقبة وزارة الخزانة الأمريكية لقائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، ليكون ثاني قائد لهذه المؤسسة في قائمة المعاقبين دوليًا، وفيما كان ينتظر منه أن يراجع نفسه، ويحاول أن يتأنى ويستقرئ الواقع والوقائع بشيء من الحكمة، استلف ذات خطاب وخطط سلفه في التعامل مع هكذا مواقف، فلجأ للحشود الشعبية والخطابات العنترية، وعمي أو تعامى عن ما يحيق بالشعب الذي يخاطب باسمه ويتحدث بلسانه من فاقة وعجز وقلة حيلة، لم يحاول الاطلاع على تقارير بعثاته الدبلوماسية التي قطعًا وصلته، وهي تحكي عن ارتفاع حالات الانتحار والجنون وسط مواطنيه، الذين لجأوا إلى دول الجوار، وصم الرجل أذنيه متعمدًا عن أنّات الأرامل وصراخ اليتامى والجوعى في معسكرات النزوح وبلدان اللجوء، ولا هو مهتم لأولئك الذين يطحنون يوميًا في مناطق الاشتباك من الجنود والمستنفرين، ولا يزال مصر، وهو الدارس بلا شك لاستراتيجيات المعارك والحروب؛ على الاستمرار في طريق ثبتت عدم جدواه وفداحة كلفته، مغلقًا بذلك أي أمل في سلام قريب يعيد للشعب كرامته، وللبلد عافيته، وللناس طمأنينة فقدوها منذ 646 يومًا بطلقة خرجت من بندقية يعلمها جيدًا، ولا نزيد.
الحدث الثاني الذي ظلل الأسبوع الماضي، ما جرى في مدينة ودمدني من انتهاكات وتجاوزات هزت الضمير العالمي وأرعبت الناس، وامتدت ألسنة لهيبها إلى السودانيين الذين يعيشون في دولة جنوب السودان، إذ قُتل 16 منهم وأصيب آخرون، ونهبت متاجرهم، إثر الاحتجاجات التي اندلعت كرد فعل لمقتل رعايا من دولة الجنوب، على أيادي تلك المليشيات الإرهابية التي تتحالف مع الجيش.
ورغم أن جنوب السودان انفصل عن السودان عام 2011 بعد حرب دموية استمرت لعقود، فإن الآلاف من مواطنيه ظلوا يعيشون في عدد من مدن وولايات السودان، ويعمل بعضهم عمالًا موسميين في مشروع الجزيرة الزراعي بوسط البلاد، ويعيش معظمهم في مناطق سكنية على أطراف المدن تسمى “الكنابي”، ويقطنها مزارعون وعمال ينحدر معظمهم من إقليمي دارفور وكردفان في غرب البلاد، وبالمقابل هناك رعايا من السودان يعيشون في مختلف مدن جنوب السودان، وبدأت علاقات الشعبيين في التعافي من أحن التاريخ ومحن النظام الإسلاموي، التي ابتلى بها أهل الجنوب حتى فضلوا الانفصال عن البقاء في دولة يحكمها الهوس الديني، لكن بقايا تلك المجموعات لن تترك زهرة تنبت ولا أملًا يرتجى.
والحدث الثالث، واضح إنه بداية تنفيذ الخطة “ب” التي أعلن عنها قائد قوات الدعم السريع في خطابه بعد الهزيمة التي لحقت بقواته في جبل مويه، وأثرت على تماسكها، وتقوم الخطة على عدم التمسك بالأرض وانتهاج أسلوب الغوريلا “أضرب واهرب”، مع استخدام سلاح المسيرات بعيدة المدى، التي يبدو أن المليشيا تحصلت على أنواع ذات تقنية متقدمة منها، وخطورة هذا الأسلوب الذي رأينا ملامحه خلال الأيام الماضيات إنه لا يترك بقعة في البلاد آمنة، ويجعل من مجموع مساحة السودان أرض معارك، ويكون الباحث عن الأمان فيها كالباحث عن العافية في أرض الطاعون. فخلال هذا الأسبوع الذي عنه نتحدث ظلت مدينة أم درمان تعيش ظلامًا دامسًا لليوم العاشر على التوالي، بعد أن استهدفت المسيرات محولات سد مروي، وقبل أن تكتمل صيانة تلك المحاولات لحقت بها محطة الشوك، وفجر اليوم الاثنين كان لمدينة دنقلا نصيب، وبذلك أظلمت معظم المنطقة التي كان يتباهى بها أصحاب الحلاقيم الكبيرة بأنها آمنة، ويصورنها وكأن البلاد كلها تنعم بالسلام والآمان والرفاهية، فالنهج الجديد للحرب سيكشف زيف الدعاية التي تريد أن تستمر الحرب عبر دغدغة مشاعر المواطن المغبون من تصرفات جنود مليشيا رفع ثوار ديسمبر صوتهم بحلها يوم كان من ينادون باستئصالها اليوم يعتبرونها “جيش الفتح الذي سيعيد دولة الدين المجيدة”، فتمظهرات الحرب وتحولاتها تقول لنا في كل لحظة بلسان الصدق إن الجلوس للتفاوض وإنهاء هذا الجنون اليوم أفضل من الغد، وأن انتصارًا ثمنه كل هذا الخراب هو هزيمة تمشي على رجلين وكفى.
أما الحدث الرابع، ليس الأخير، ولكن به سنكتفي هو أداء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اليمين الدستورية رئيسًا لأعظم قوى في العالم، وخطابه الذي حمل الكثير من الرسائل التي تنبئ في غير دهشة أن العالم مقبل على تغييرات واسعة، وما يهمنا بإلحاح من تلك الرسائل نقطتين الأولى حديثه “أن هناك حروبًا في العالم لن نتدخل فيها أبدًا”. وبما أن العالم الآن بعد أن توقفت حرب غزة تبقت فيه ثلاث بؤر ملتهبة هي أوكرانيا واليمن والسودان، هذا يجعلنا نرجح أن المعني بعدم التدخل هو السودان، لأن أوكرانيا يصعب على الرجل تجاهلها، فتلك حربهم بالدرجة الأولى، وحرب اليمن ارتبطت لدى صانع القرار الأمريكي بأمن إسرائيل، الذي لا يتلاعبون فيه، وعدم تدخل الولايات المتحدة في حرب السودان ذي حدين ما لم نحسن التعامل معه، مستغلين النقطة الثانية التي أشرنا إليها وهي قول الرجل إنه يريد أن يكون إرثه في السياسة هو صناعة السلام، فإن تعاملت القوى المدنية بجدية مع هذه النقطة فبلا شك يمكنها أن تصنع من السلام في السودان واقعًا، بالنظر إلى شخصية ترمب المعروفة بسرعة اتخاذ القرار والمضي فيه إلى النهاية.. فهلا فعلت القوى المدنية ذلك وخلصت هذا الشعب من هذا الجحيم.