معاوية نور.. الرؤية الجلية في الظلام الدامس!!

عبد الغني كرم الله
   

نور الأسئلة وحكاية كيس الصعود
عبدالغني كرم الله

(الحكاية الثانية)

معاااااااوية؟
شرحبيييل؟
يا جنى جيب حقة الصعود من الأوضة!!

هكذا صرخ الأب، أنسل الصوت، في ليلة مظلمة، من حوش وسيع، تفتح الدار غربًا، والصبية الصغار يلعبون في الطريق الذي يقود إلى سوق الموردة القريب، وخياشيمهم تمتلئ برائحة الطمي والسمك، حيث النيل لا يبعد سوى ثلاثمائة متر، أيديهم تمسك أرجلهم من خلاف، يلعبون لعبة “شدّت”، في شارع وسعته نفوسهم الطيبة، أكثر من رحابته، وأجمل، فصار مرتع صباهم، وبيت أحلامهم.
أقبل الصبيان متقطعي الأنفاس، ليجدوا الأب الوالد، والخال الدرديري في قلب الدار، في كراسي خشبية، في ونسة عن البلاد، والزواج والأراضي في توتي، والعيش في ظل الاستعمار الحديث، وبقايا ذكريات عن عصر المهدية، وتحويل سجن التعايشي، قرب دار الدرديري، لملعب لكرة القدم، والطاهرة تصنع في الشاي المنعنع، لأخيها وزوجها، وأهلها.
جرى شرحبيل مباشرة للأوضة كي يبحث عن (الحقة)، أما معاوية فقد أقبل على أبيه، يسأله:

– في أي غرفة؟
– الغرفة الفيها صورة آية الكرسي.
– في أي عنقريب هي؟
– قال الوالد: العنقريب الغربي.
– رد معاوية: قرب أي كراع؟
– الكراع الوراء قصاد آية الكرسي.
– تحت المخدة؟ أم المرتبة؟
– تحت المرتبة.
ثم سار واثق الخطو، وبنور الذكرى، في معرفة البيت، وبضياء الأسئلة الذكية، أسئلة أصدق من بوصلة، أو نجم بعيد لمسافر عجوز خبير، اقتفى معاوية آثار درب وصف والده، مضى، للغرفة المظلمة الكبيرة، التي أضاءها سراج أسئلته وذكاؤه الوقاد، (هكذا كان في سائر عمره القصير، العظيم، ينير ظلمات الفكر والشعور)، عرج على العنقريب المعني، وكان شرحبيل داخل الغرفة، متعرقًا، يبحث هنا وهناك، ويتعثر، ويسقط ويلعن، كمن يبحث عن قطة سوداء، في غرفة ظلماء، وهي أصلا غير موجودة، تلكم القطة، ورفع معاوية المرتبة، ولمس برودة (الحقة)، ومضى لأبيه، وترك أخيه يبحث عنها، بلا دليل أو برهان، سوى المصادفة البحته.
(سبقك عكاشة يا شرحبيل المرح)، المهمة واحدة، والطرق كثيرة، ومنها القصير، ومنها الطويل، رغم أن الغاية واحدة، فكم من الشعوب اقتدت بمعاوية، وكم منها اقتدى بشرحبيل؟
كان متوقد الذكاء، وهو طفل لم يبلغ السابعة، أو الثامنة، وتجلى ذلك حين أرسله والده لجلب حقة الصعود هذه، في الغرفة المظلمة، لم يجر مثل أخيه شرحبيل، الذي سبقه، حين سمع نداء والدة من وراء الحوش “يا جنى جيب حقة الصعود، ولكنه سأل مثل ديكارت عن كل شيء، كان يعرف دربه بالأسئلة، كي لا يتخبط في دروب الحياة الكثر، بعشوائية فطرية، يسأل في أبسط الأمور، وأعلاها، أي تربية مفكر صغير، فقد جرى شرحيل حين سمع النداء وانحشر في الغرفة بحثًا عن حقة صعود، مثل من يبحث عن قطة سوداء في غرفة ظلماء، ولكن معاوية وقف بأدب أمام أبيه، وسألة “في أي عنقريب؟ قيل له الشرقي، وقرب أي كراع، قيل له الكراع اليمنى، تحت المخدة؟ أم تحت المرتبة؟ قيل له تحت المرتبة، فمضى بخريطة الذاكرة، فهو يعرف موقع الدولاب والعناقريب، والنوافذ “كما نعرف الفم في الأكل في قلب الظلام”، وبنورها (أي تلكم الأسئلة)، رأى الحقة، ولم يتخبط مثل أخيه الذي سبقه، وبحث في كل الأمكنة، ما عدا موقعها الحقيقي، وحملها برفق وسرعة، وإتقان لوالدة، وهكذا يحرر الفكر الإنسان من التخبط، والبحث الأعمى، والضلال، وإضاعة الوقت، “الثروة الأم”، أي الدهر، وتجلى ذلك من مرحلة طفولته الباكرة، مفكر صغير، وعنيد، وذكي.

لا شيء مثل الفكر، يقود للخلاص، فمنذا أن استقام قوام الإنسان، وانتصب يمشي برجلين، ومد أصابعه وقطف ثمرة، أو هزّ الشجرة، إن كانت شاهقة، أو استخدام عصاة “أدوات الإنتاج الأولى”، وتساقطت الثمار، وأكلها، فقد، فتحت أفاق التطور، اللانهائي، الذي نجني ثماره الآن، وقد استعد الجسد بتطور جوارحه، اليد الرشيقة، والخيال الخلاق، والإرادة، وحس التطور، من ذلكم الرجل، وأنامله، وهز الشجرة، وتساقط ثمر، وأكله، تفكير وحصاد آثاره، إنه فرح ود تكتوك، حلال المشبوك، أي الفكر.

عبد الغني كرم الله

كاتب وروائي،سوداني له عدة كتابات في مجالات مختلفة و اصدر، مجموعة قصص قصيرة، وروايات، دمهتم بإدب الاطفال واليافعين، كتب في عدة مطبوعات ودوريات عربية واجنبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى