“الخرطوم”: صوت سينمائي لقصة السودان المعاصرة
أصبح الفيلم الوثائقي “الخرطوم” أول فيلم سوداني يُعرض لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي، مما يمثل لحظة محورية في تسليط الضوء على النضالات والآمال التي يعيشها الشعب السوداني. الفيلم، الذي شارك في إخراجه الصحفي البريطاني فيل كوكس وأربعة صناع أفلام سودانيين، يتجاوز كونه عملاً فنياً ليصبح شهادة بصرية على واقع مدينة الخرطوم وما يعيشه سكانها. هذا المشروع الذي تطور بشكل درامي بسبب الحرب في السودان عام 2023، يقدم رؤية سينمائية مبتكرة تستكشف المدينة وشخصياتها من زوايا إنسانية وسياسية وثقافية.
بداية الفكرة
“كيف يمكنك تصوير مدينة؟ وكيف تصور مدينة ضخمة مثل الخرطوم أو نيويورك باستخدام كاميرات صغيرة كهذه؟” هكذا تساءل فيل كوكس، الصحفي البريطاني ومخرج الأفلام وأحد المشاركين في إخراج الفيلم الوثائقي “الخرطوم”.
كان هذا السؤال هو جوهر التحدي الذي واجهه كوكس مع صناع الفيلم الآخرين حين قرروا إنتاج الفيلم الوثائقي، في البداية كان الهدف هو إنتاج سلسلة من القصائد السينمائية التي تعكس حياة سكان المدينة. عمل كوكس بالتعاون مع فريق من صناع الأفلام السودانيين على وضع خطة للمشروع، وتأمين تمويل جزئي من شركة آبل، حيث تولى كل مخرج متابعة قصص شخصيات من سكان الخرطوم.
تصوير مدينة الخرطوم
بدأ المشروع بهدف توثيق حياة سكان الخرطوم من خلال سلسلة من القصائد السينمائية التي تبرز تفاصيل حياتهم اليومية. اختار المخرجون التعاون مع شخصيات محلية لتسليط الضوء على قصص تمثل نبض المدينة: أنس سعيد صور خادم الله، وهي أم وصانعة شاي، بينما تابعت راوية الحاج حياة لوكين وويلسون، شابين يهوَيان جمع الزجاجات. إبراهيم سنوبي ركز على قصة مجدي، الأب الذي يشارك في سباقات الحمام، في حين تناولت تيميا م. أحمد شخصية جواد، المتطوع في لجان المقاومة.
كانت هذه الخطط تسير بشكل جيد حتى اندلعت الحرب في أبريل/نيسان 2023، ما أدى إلى توقف الإنتاج ودخول المشروع في حالة من الفوضى. وجد المخرجون أنفسهم أمام تحدٍ جديد: كيف يمكنهم إكمال الفيلم في ظل صراع مدمر؟
التكيف مع الفوضى
مع فقدان الاتصال بالمشاركين وانتقالهم إلى مناطق أكثر أماناً مثل كينيا، أعاد المخرجون النظر في المشروع، وقرروا الاعتماد على أرشيف اللقطات القديمة، المقابلات، وتقنيات الشاشة الخضراء لإعادة تمثيل بعض الأحداث. قال إبراهيم سنوبي: “لقد توصلنا إلى فكرة التواصل بأي وسيلة ثم محاولة إخراجهم من مناطق الخطر”.
كان هذا التحول الإبداعي ضرورياً، ولكنه لم يكن خالياً من التحديات. حاول المخرجون الحفاظ على أصالة القصص مع خلق مساحة يساهم فيها المشاركون في تشكيل السرد. أضاف سنوبي: “لقد أردنا أن نكون مثل الجمهور، نتفاجأ بالقصص ونكتشف الأحداث كما هي”.
مقاربة إخراجية تشاركية
تجاوز الفيلم أسلوب الوثائقي التقليدي الذي يعتمد على التصوير العفوي إلى ما وصفه فيل كوكس بـ”السيطرة التشاركية”. شارك المخرجون مع المشاركين في اتخاذ قرارات إبداعية حول كيفية تصوير الأحداث، مما خلق علاقة تعاونية مميزة بين الطرفين.
على سبيل المثال، في أحد المشاهد، جلس المخرجين حول عربة شاي خادم الله يناقشون قضايا سياسية معقدة. علق أنس سعيد قائلاً: “كانت المحادثة الأولى مشتعلة، وتركتها تنمو إلى مناقشة أعمق”.
ومع ذلك، كانت هذه الفلسفة محفوفة بالمخاطر، خصوصاً عند إعادة تمثيل المشاهد باستخدام الشاشة الخضراء. “كنا نعمل على خلق بيئة تحكم ولكن لا يمكنك فعل ذلك إلا مرة واحدة لأنهم ليسوا ممثلين”، أضاف كوكس.
التحديات الإنسانية
لم يكن الفيلم مجرد عمل إبداعي بل كان تجربة إنسانية عميقة. عاش المخرجون والمشاركون معاً في شقة بكينيا، حيث تعلموا عن آمال وأحلام بعضهم البعض، وشاركوا اللحظات الثقيلة والدموع.
قال تيمية أحمد: “إنها قصص تمثل ملايين السودانيين، ويمكنك أن تشعر بالقضية السودانية بأكملها من خلالها”.
تظهر هذه الأبعاد الإنسانية في الفيلم من خلال مزيج من لحظات الفرح والحزن. يرقص السودانيون ويغنون داخل الفيلم، مما يكسر الصورة النمطية عن السودان كمنطقة صراع فقط.
العرض الأول: رسالة تتجاوز السينما
يعرض فيلم “الخرطوم” لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي ضمن مسابقة السينما العالمية للأفلام الوثائقية، وهي منصة تعكس أهمية العمل وتأثيره العالمي. لا يسعى صناع الفيلم فقط للوصول إلى صناع السينما، بل يأملون في تحفيز جمهور دولي على التفاعل مع قضية السودان.
قال سنوبي: “إنها الفرصة المثالية لإعلام العالم بما يحدث في السودان الآن”. وأشار إلى أن السودان يواجه أكبر أزمة إنسانية في تاريخه، إذ أدى النزاع إلى نزوح أكثر من 15 مليون شخص وسط نقص كبير في التغطية الإعلامية الدولية.
وأضاف أحمد: “مهرجان صندانس ليس مجرد منصة عرض؛ إنه نافذة للعالم للتحدث عن السودان، التبرع، والتفكير في معاناته”.
أهمية الفيلم: تمثيل صوت السودانيين
يمثل فيلم “الخرطوم” عملاً فنياً وإنسانياً يعكس التجربة السودانية المعاصرة. يتحدى الفيلم الصور النمطية ويبرز قصص الأمل والصمود. كما يسلط الضوء على النضال اليومي للسودانيين في ظل النزاع المستمر.
يقول كوكس إن الفيلم ليس فقط محاولة لتوثيق الواقع، بل هو دعوة للتفكير والعمل من أجل السودان.