تجارة “الكاش”.. أزمة سيولة نقدية وتعاملات “ربوية”

أفق جديد

يعيش السودان حاليًا أزمة اقتصادية كبيرة بسبب شُح السيولة النقدية، ما أدى إلى تفشي تجارة النقود (الكاش) في الأسواق، إثر عجز المصارف عن توفير الأموال، ورداءة التطبيقات البنكية، ما اضطر الناس إلى اللجوء إلى المعاملات الربوية لتوفير احتياجاتهم من النقود.

وفي ديسمبر الماضي، أعلنت الحكومة استبدال فئات (500) و(1000) جنيه في محاولة للسيطرة على الاقتصاد المتدهور ومكافحة التزوير.

وفق منشور صادر عن البنك المركزي، فإن الهدف من طرح الفئة الجديدة هو حماية العملة الوطنية وتحقيق استقرار في سعر صرفها، ومواجهة الآثار السلبية للحرب الدائرة، ولا سيما عمليات النهب الواسعة التي نفذتها قوات “الدعم السريع”، لمقار بنك السودان وشركة مطابع السودان للعملة في الخرطوم.

وتسبب القرار المُفاجئ ربكة غير مسبوقة من الفوضى والاضطرابات الاقتصادية، وشلل كامل في الأسواق والطوابير الطويلة أمام البنوك التي عجزت عن تلبية طلبات المواطنين.

وفي ظل غياب السيولة وانعدام الثقة في النظام المصرفي، برزت السوق السوداء كبديل رئيسي، إذ أصبحت تجارة الأوراق النقدية القديمة نشاطًا مُزدهرًا.

يقول الطيب يوسف، وهو تاجر بسوق مدينة المناقل، “أزمة السيولة النقدية مشكلة كبيرة، وعملية البيع والشراء أصبحت أكثر تعقيدًا بسبب رداءة التطبيقات البنكية.”

وأوضح يوسف في حديثه لـ”أفق جديد”، أن “الوضع يتطلب تغذية البنوك بالسيولة النقدية ليستطيع التجار شراء السلع والبضائع للمواطنين.”

من جهته يقول أحمد عبد الله، وهو تاجر عملة في سوق بورتسودان، لـ”أفق جديد”، “نجتهد في توفير السيولة النقدية للمواطنين مقابل نسبة معقولة في ظل عجز المصارف عن توفير الأموال.”

وأضاف، “أبيع 50 ألفًا مقابل 10 آلاف جنيه. بعض الناس يشترون وآخرون يرفضون بحجة أن نسبة الاستقطاع كبيرة.”

من جهته يقول المواطن، عز الدين الطيب، “هناك مشكلة. رأيت بنفسي تجار الكاش أمام البنوك، يبيعون مبلغ مليون جنيه، مقابل 700 ألف من العملة الجديدة، وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق.”

وأضاف الطيب في حديثه لـ”أفق جديد”، “تضاعفت رسوم التحويل البنكي بصورة مدهشة. كل هذا يقع فوق رؤوس المواطنين الضعفاء الذين يتلقون الإعانات المالية من أهلهم وذويهم في دول الاغتراب.”

من جهتها تقول الطالبة بجامعة البحر الأحمر، نهى الأمين (25) عامًا، لـ”أفق جديد”، “نواجه صعوبة كبيرة في الحصول على العملة الجديدة.”

وأضافت، “تلقيت مبلغ 500 ألف جنيه من والدي عبر التطبيق المصرفي، لكنني حصلت على 400 ألف جنيه نقدًا.”

وأضافت بالقول: “الرقابة الحكومية غائبة، ولا بد من حمايتنا من جشع التجار الذين يقتطعون نسبة كبيرة من الأموال.”

ووفق وزير المالية، جبريل إبراهيم، فإن “بلاده لجأت لاستبدال العملة الورقية حل حزمة قضايا، أولها جذب الكتلة النقدية إلى النظام المصرفي حتى تتمكن البنوك من أداء دورها في تنفيذ السياسة الاقتصادية وتمويل المشاريع الحيوية.”

وأوضح إبراهيم في تصريحات إعلامية، أن “الخطوة تستهدف أيضًا مواجهة عمليات تزييف الجنيه السوداني التي انتشرت على نطاق واسع في الفترة الماضية، إضافةً إلى التصدي لعمليات النهب التي تمّت على يد قوات الدعم السريع، ودعم التحول باتجاه الرقمنة.”

أزمة حقيقية

يقول الخبير الاقتصادي، هيثم محمد علي، “هناك أزمة حقيقية يعيشها المواطن وهي عدم توفر السيولة النقدية في المناطق الآمنة المستقرة وذلك نتيجة كثير من الإجراءات النقدية التي اتبعها البنك المركزي، ومن أهم تلك الإجراءات هي تغيير العملة لفئتي الخمسمائة والألف جنيه.”

وأضاف محمد علي في حديثه لـ”أفق جديد”، “ذلك يعرض المصارف السودانية لمزيد من المخاطر والتهديدات التي يصعب التعامل معها؛ إذ أصبحت تمثل هاجسًا مقلقًا يقض مضاجع إدارة تلك المصارف السودانية، ويعوق الجهود المبذولة لضمان استمرارية النشاط المصرفي واستنباط حلول مناسبة للأزمة التي بدأت تؤثر على مجمل الاقتصاد السوداني، خاصة أن كثيرًا من هذه المصارف نُهبت وسُرقت كثير من فروعها بالعاصمة وكردفان والجزيرة وسنار.”

وتابع، “في تقديري لا بد من تزويد المصارف المحلية بالعملة الجديدة حتى يساعدها على التعامل مع أزمة السيولة الخانة التي تعوق نشاط هذه المصارف في الوقت الراهن، ويمكنها من مواجهة جزء من التزاماتها للعملاء والمودعين ويعينها على تغطية جزء من تكاليف التشغيل، وتلبية طلبات السحب العاجلة التي يتقدم بها العملاء الصغار والمودعين بوجه خاص.”

وأوضح محمد علي، أن “الأزمة الحالية أدت إلى انتشار عمليات التبادل النقدي بين العملة القديمة والجديدة أثناء مهلة التبديل. كذلك تبادل بين المبالغ النقدية وبين المبالغ الإلكترونية الموجودة بالحسابات المصرفية، حيث يقوم البعض في السوق بتحصيل أرباح غير شرعية من خلال الخصم من المبالغ المتبادلة.”

وأضاف محمد علي في حديثه لـ”أفق جديد”، “هذه المعاملات، وإن أُلبست ثوب التسهيلات أو الخدمات، إلا أنها في حقيقتها ربا صريح، لأن الخصم يتم دون وجود سلعة أو خدمة مبررة، وإنما هو استغلال لحاجة الناس وتلاعب بأموالهم. هذه الظاهرة شجعت ظهور السوق السوداء، حيث اختلط المال الحلال بالحرام، وأصبح الربح غير المشروع سبيلًا لتحقيق المكاسب. الربا يضعف القوة الشرائية ويزيد من معاناة الناس، خصوصًا في ظل شح السيولة النقدية وعدم استقرار العملة.”

خسائر كبيرة

وتسببت الحرب التي اندلعت منتصف أبريل 2023، في إغلاق 12 من أصل 18 فرعًا لبنك السودان المركزي في ولايات البلاد البالغ عددها (18) ولاية، مما حرم البنك من معرفة أوضاع العملة من أجل استبدالها أو سحبها وضخ فئات جديدة، مع صعوبة نقلها إلى الولايات بسبب الأوضاع الأمنية وإغلاق الطرق.

وطبقًا لبيانات البنك المركزي، يتألف الجهاز المصرفي في البلاد من 38 مصرفًا (16 سودانيًا و22 مُختلطًا) لديها 833 فرعًا و77 نافذة و73 مكتبًا للتوكيل، وتضم مدن ولاية الخرطوم الثلاث (435) فرعًا تمثل 49% من عدد الفروع في السودان.

وكشف تقرير سابق لبنك السودان المركزي عن توقف 70% من فروع المصارف في المناطق التي تشهد مواجهات عسكرية أو متوترة أمنيًا، وبعد عام ونصف العام من اندلاع الحرب تزاول حاليًا نحو (427) فرعًا في الولايات الآمنة أعمالها، أي نصف العدد الكلي للمصارف.

يقول الخبير الاقتصادي، عبد العزيز الزبير، “تجارة النقود مصيبة كُبرى تقود إلى فساد مالي وارتفاع في الأسعار من جميع النواحي المعيشية والخدمية المتعلقة بالمواصلات والمشتريات الخدمية والاتصالات والتحويلات المالية”.

وأضاف الزبير في حديثه لـ”أفق جديد”، “عملية الكسر الربوي تزيد من احتقان المعاملات المالية التي ستقود التعاملات التجارية إلى انهيار كُلي يُسهم في تقليص عجلة الإنتاج الاقتصادي.”

وتابع، “لذلك من غير تفعيل القوانين الصارمة لمكافحة الفساد وإطلاق العنان لمؤسسات الوطن الرصينة لن تكون هناك معالجة مُجدية.”

من جهته يقول المحلل الاقتصادي، أحمد خليل، “فيما يخص ندرة الكاش في الأسواق السودانية هو نتيجة لقرارات ارتجالية خاطئة اتخذتها الحكومة لمحاربة قوات الدعم السريع وتجفيف السيولة النقدية وإعادتها إلى الجهاز المصرفي.”

وأضاف خليل في حديثه لـ”أفق جديد”، “القرار بشكل عام جيّد، لكنه يحتاج إلى بنية تحتية جيدة وتوعية المواطنين وتمديد الفترة الزمنية الطويلة، ومنذ صدور القرار؛ هناك مشكلة وضعف في شبكة الإنترنت التي تعتمد عليها التطبيقات البنكية والمصرفية، وعدم وجود مخالصة بين البنوك ما أدى إلى تكدس المواطنين في طوابير تغيير العملة أمام بنك الخرطوم باعتباره من أكبر البنوك التي تمتلك خدمات إلكترونية، بالتالي تطبيق “بنكك” من أفضل التطبيقات.”

وتابع، “هذا الوضع أدى إلى وجود مستهلك يريد توفير احتياجاته الحياتية، مع الشح في المعروض من النقود، بالتالي أسفر عن ظهور تجارة الكاش بنسبة خصم تصل إلى نسبة 25%، وهذا ضرر على المواطن.”

وزاد، “إذا كانت الجمعية السودانية لحماية المستهلك تعمل بشكل جيد، من المفترض أن تقاضي المصارف والحكومة التي استلمت الأموال ولم تردها إلى المواطنين، وكثير من هؤلاء لا يتعاملون مع هذه التطبيقات.”

ومضى قائلًا: “على الحكومة أن تتوسع في توفير الخدمات المصرفية وتسهيل ضخ الأموال إلى المواطنين. الحكومة تحارب المواطن في أي مكان والدعم السريع يحاربهم أيضًا، ما أدى إلى زيادة المعاناة، فهذا الإجراء اقتصاديًا صحيح، لكن عملية تطبيقه تعاني من خلل كبير وضعف في معالجة الخطأ.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى