ميثاق نيروبي:

منعطف الانعتاق من قيد قديم

النور حمد
النور حمد

 

(الحلقة الأولى)

أنظر إلى ما جرى في الساعات الأولى من صباح يوم 23 فبراير 2025 في قاعة المؤتمرات في نيروبي، بوصفه حدثًا تاريخيًا فريدًا في السياق السياسي السوداني المعاصر. لقد جرى بعد مفاوضات عسيرة، في الساعات المتأخرة من الليل حفل التوقيع على الميثاق التأسيسي للسودان الجديد الذي نتطلع لكي ننعتق به من قيود حقبة طويلة اتسمت بالبؤس وبالتعاسة وبالتراجع عن مكتسبات التقدم. فقد عشنا منذ الاستقلال سبعين عامًا لم نجن منها سوى سفك الدماء وتدمير بنى الدولة ونهب مواردها الاقتصادية، فقط لكي تنعم طبقة صغيرة من العسكريين والسياسيين ورجال المال والأعمال بالسلطة وبالثروة والوجاهة. اتسمت هذه الطبقة بالنهم وبالأنانية وبفعل كل الموبقات لخدمة الذات من أجل احتكار ثروات البلاد وحراستها من ثورات السكان؛ السلمية والمسلحة ومنعهم نصيبهم العادل منها. لم تعبأ هذه الطبقة المركبة مترابطة المصالح ومتشابكتها بإفقار الشعب وبتدمير بنى الدولة وجرها إلى الوراء باستمرار، حتى أصبح السودان والأمة السودانية أضحوكة بين الأمم وموضع عين كل طامع في خيراتها الثرة. 

طبقة زئبقية

هذه الطبقة طبقة الزئبقية شديدة البراغماتية يصعب الإمساك بها. فقد تعلمت كيف تلعب على عدد من الحبال. فقد اكتسبت من المهارة ما جعلها تخدم مراكز خارجية متضاربة المصالح. لكن، رغم ما يبدو على هذه الطبقة من تضامن شديد فيما بينها لحماية مصالحها، فإن لها صراعاتها الداخلية، التي تحتد حينًا وتتراجع حدتها حينًا آخر. وهناك مركزان خارجيان بارزان: أحدهما أيديولوجي مثلته في الخمس وتلاثين عامًا الماضية منظومة الإسلام السياسي الدولية. أما المركز الآخر فهو مركز جيوسياسي وجيواستراتيجي تاريخي يتمثل في الدولة المصرية وأطماعها في السودان. تستقوى هذه الطبقة الناهبة بالدولة المصرية طلبًا للحماية الأمنية والسند السياسي عبر عملاء مصر في الداخل وللسند الدبلوماسي في الإقليم وعلى المستوى الدولي. هذه الزئبقية التي كانت خفية في الماضي اضطرتها الظروف لتخرج إلى العلن في خمس سنوات البرهان الأخيرة هذه بالغة البؤس والقبح.

 لهذه الطبقة أداتان لحراسة إجرامها. تتمثل هذان الأداتان من جهة في الجيش والمنظومة الأمنية الباطشة وأعلامها مدفوع الأجر. وتتمثل من الجهة الأخرى في الخطاب الديني الشعبوي التضليلي التخديري الفج الذي تستخدمه في قتل روح المطالبة بالحقوق في السلطة والثروة وفي ستر عريها الأخلاقي الفاضح. ولقد استطاعت الحركة الإسلامية منذ أن كان اسمها “جبهة الميثلق الإسلامي” في ستينيات القرن الماضي أن تبتز بالشعار الديني الحزبين الكبيرين؛ الأمة والاتحادي. وللأسف فقد جارياها وانخرطا معها في قضية حل الحزب الشيوعي السوداني، ما قادهما إلى خرق الدستور وتقويض النظام الديمقراطي من الداخل. وقد فعل هذان الحزبان ذلك خوفًا من أن تسحب جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة حسن الترابي الجماهير المحبة للدين منهما. وظل الإسلامويون يسجنون هذين الحزبين الطائفيين في هذا الإطار ويشلونهما حتى نفذا ضدهما انقلاب يونيو 1989 ليحكم الإسلامويون البلاد منذ تلك اللحظة وإلى اليوم البلاد بقبضة من حديد.

لقد نجح الإسلامويون عبر آلتهم الإعلامية واستقطابهم لأئمة المساجد وسيطرتهم على الخطاب الذي يبث منها أن يبتزوا الأحزاب السياسية وعامة الناس كذلك عبر الإرهاب الديني. لقد نجحوا في أن يخلقوا خطوطًا حمراء بلغت أن جعلت الحديث عن علمانية الدولة كفرًا بواحًا. فأصبح السياسيون يتلعثمون عند الحديث عن عنها حتى بلغ أن ساد هذا الارتباك تحالف “ق ح ت” و”ت ق د م” اللذين أنيطت بهما خدمة أهداف ثورة ديسمبر. هذا في حين أن أكثر ثلاث دول تتسم بغلبة المسلمين الساحقة على سكانها، التي تتميز بأنها الأكثر تقدمًا اقتصاديًا وصناعيًا هي دول نظام الحكم فيها علماني وليس ديني. هذه الدول هي إندونيسيا وماليزيا وتركيا. وهذا جانب من زئبقية و”استهبال” قومنا هؤلاء الذين يشيطنون جعل نظام الحكم في السودان علمانيًا ويحبون في نفس الوقت الحج والاعتمار بل والإقامة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا. بل، ومدينة دبي المركز المالي العالمي المنفتح على الآخر، وكذلك مصر العلمانية التي أخرست الصوت الإخواني بالحديد والنار.

حزبا الأمة والاتحادي الجديدان

الميثاق التأسيسي الذي جرى توقيعه في مدينة نيروبي نص ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث المستقل، على علمانية نظام الحكم دون تلعثم أو مواربة. كما نص على تحريم قيام الأحزاب على أساس ديني. والأهم من ذلك أن الحزبين التاريخيين الكبيرين تحت قيادة اللواء م فضل الله برمة ناصر والسيد إبراهيم الميرغني، قد أخرجا الحزبين ولأول مرة من دائرة الابتزاز الإخواني بقبولهما علمانية نظام الحكم. وسيصبح هذان الحزبان بصورتهما الجديدة هذه مركزي جذب لشباب الاتحاديين وشباب حزب الأمة. فهذا الميثاق التأسيسي بصورته هذه التي لا مجال لعرض كل نقاطه هنا وليقرأ نصه الكامل في مظانه من يريدون التعرف بدقة وشمول على أهميته، إنما يمثل منعطفًا تاريخيًا كبيرًا. بهذا الميثاق ندخل منعطف الفرز الواضح بين قوى الثورة الحقيقية وناشدي التغيير المستدام،  وبين من يريدون الإزورار من مجابهة أس المشاكل وممارسة التكتيكات البئيسة العقيمة غير المنتجة. أعني: السير في درب الإمساك بالعصا من المنتصف انكسارًا؛ أما بسبب ضبابية الرؤية او بسبب الانهزام والأنكسار أمام أساليب الشيطنة والتخوين الديني “الأخونجية” المعهودة. المهم  أن بداية الفرز قد بدأت وأن مرحلة جديدة من مراحل الثورة قد أخذت تتشكل في الواقع. ولسوف ينحاز كثيرون في هذا المنعطف الفارق إلى بنية القديم، من مسافات متفاوتة، وسوف يندرسون معه.

الحلو وجسما “ت ق د م” الحي والميت

زار رئيس الوزراء المنقلب على شرعيته عبد الله حمدوك، القائد عبد العزيز الحلو في الأراضي المحررة في كاودا قبل بضع سنوات. لكن لم يسفر ذلك اللقاء عن الإتيان بالقائد الحلو إلى جانب منظومة الحكم القائمة حينها. ثم مرت الأيام وتغير المسرح ووضعت الحرب اللعينة التي أشعلها البرهان والإسلامويون، الجميع في ملعب جديد، اقتضى تفكيرًا جديدًا وأدوات جديدة. لقد قرأ القائد عبد العزيز الحلو عقب اتقسام “ت ق د م” وتشكيل قطاع كبير منها، ممثلًا في أحزاب لها وزنها، إضافة إلى غالبية الجبهة الثورية وقوى مدنية وأهلية عديدة، الوضع قراءة صحيحة. فـ (ت ق د م) الآن جسمان: أحدهما حي والآخر في طريقه إلى الموت. فتجربة السلمية كانت عظيمة بلا شك، لكنها كانت في مواجهة بنية حاكمة فاشية الطابع لن ينجح معها أسلوب السلمية. وقد حكمنا الإسلامويون بقوة للسلاح حتى الآن بقوة السلاح والقبضة الأمنية وقد بلغوا الآن حد الإرهاب بجز الرؤوس وبقر البطون والقتل العشوائي. بهذا خدمت السلمية غرضها حتى استنفدته ولم يعد أمامها مسرح ولا فرصة للعودة من جديد. هذا الوضع الجدي اقتضى ميثاقًا سياسيًا واضحًا ينص على علمانية نظام الحكم وعلى التحول الديمقراطي، والتعددية الثقافية، وعلى وحدة الأقاليم الطوعية، وتوحيد الجيوش وإبعاد الجيش عن السياسة والأنشطة الاقتصادية واعتماد الشفافية في الإدارة المالية للدولة، لكن مع حماية بالسلاح لهذا التوجه ولفرض السلام على من ظلوا يرفضونه عبر كل تاريخهم في الحكم. بهذا نعود لنهج جون قرنق؛ حركة سياسية ببرنامج واضح وذراع عسكري قوي مساند. فهم هذا القائد الحلو وفهمها قطاع كبير من “ت ق د م” ولم يفهمها قطاع آخر منها. وأرجح أن هذا القسم الآخر سيواجه انقسامًا جديدًا. فالقسم الأفضل منه سيموت للأسف أما القسم الآخر فسيندغم في الخطة المصرية البرهانية الإسلاموية.

يتواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى