تقدم: أسرع التحالفات السياسية انقسامًا 

سمير شيخ إدريس المحامي
سمير شيخ إدريس المحامي

سمير شيخ إدريس

شهدت الساحة السياسية السودانية في العصر الحديث العديد من التحالفات السياسية بين القوى المختلفة منذ بواكير التاريخ الوطني قبل الاستقلال، فعلى سبيل المثال توحدت رؤية الحركة الاتحادية نحو الوحدة مع مصر في مواجهة القوى المطالبة بالاستقلال في الجانب الآخر، وسرعان ما تغيرت تركيبة وبنية التحالفات عقب الاستقلال، سيما بعد ظهور قوى جديدة على الساحة أبرزها الحزب الشيوعي والإخوان المسلمون، اللذان أحدثا تغييرًا في خارطة التحالفات على ضوء القوى المتسيدة للساحة وقتها، وقد دعت الحاجة الملحة هذه القوى أن تترك صراعها الفكري جانبًا وتتجه لخلق تحالفات لا تستند على الأساس الفكري واشتراك الرؤى، بل اشتملت على اتفاق الحد الأدنى لمقارعة الأنظمة الديكتاتورية في عهدي عبود وجعفر نميري، وما لبثت تلك التحالفات أن انفضت عقب سقوط النظامين، وفي عهد الإنقاذ الذي تبوأ الإسلاميون فيه سدة الحكم لم تجد القوى السياسية بدًا من الاصطفاف مرة أخرى في تحالف جديد لمواجهة السلطة الانقلابية التي بدلت من سياستها الباطشة تجاه تحالف القوى المعارضة، وعملت على محاولات تفتيت تلك التحالفات بزرع بذور الشقاق بين القوى المتحالفة من أجل تقسيمها ومن ثم قامت باستمالة واستقطاب القوى المنشقة وبعض الكيانات المتحالفة ضد نظامها، ما أدى لتغيير خارطة التحالفات بشكل جذري خلال حقبة الإنقاذ حتى سقوط نظامها الذي تمظهر أكبر تحالف وقتها ممثلًا في قوى الحرية والتغيير كأكبر التحالفات المتسيدة للمشهد عقب انتصار ثورة ديسمبر 2018 إلى جانب قوى الكفاح المسلح، غير أن هذا التحالف مضافًا لبقية القوى الحية والفاعلة في المشهد شهد عديد التقلبات في العهد الانتقالي ومن بعده انقلاب البرهان وحتى نشوب حرب أبريل 2023.

وبعد الحرب التي زادت من تعقيد الوضع السياسي قامت بعض القوى السياسية بقيادة أحزاب الحرية والتغيير والحركات المسلحة ومنظمات مجتمع مدني بعقد اجتماع تحضيري في أكتوبر 2023 بأديس أبابا تحت شعار بناء أوسع مظلة سودانية مدنية لإنهاء الحرب، وإعادة تأسيس الدولة السودانية، وتوجت جهودها في مايو 2024 بالإعلان التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، التي عرفت اختصارًا باسم (تقدم)، برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، ويعتبر تحالف تقدم من التحالفات ذات الثقل السياسي لما ضمته من تنظيمات ورموز سياسية وما قامت به من أنشطة على الساحة، ولكن وكعادة التحالفات السياسية السودانية وضعف جهازها المناعي ما لبثت وأن أصيبت بجرثومة الانشقاق بعد شهور من تأسيسها بسبب خلاف نشأ بسبب تبني فصائل الجبهة الثورية وشخصيات من تحالف تقدم مقترحًا بتشكيل حكومة منفى موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع ونزع شرعية حكومة بورتسودان، وأدى ذلك المقترح لحدوث هزة عنيفة وانقسامات داخل التحالف من جهة وداخل القوى الداعمة للمقترح نفسها من جهة أخرى ما حدا بقيادة تقدم إلى إحالة المقترح إلى آلية سياسية عجزت عن التوفيق بين أنصار الحكومة الموازية والرافضين، ومن ثم أعلنت التنسيقية فك الارتباط بين المجموعتين، وهو ما فتح الباب مشرعًا نحو تشظي وانقسام جديد وسط التحالف الوليد الذي حل نفسه وانقسم لمجموعتين باسمين جديدين، وقامت المجموعة الرافضة بتأسيس كيان التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) برئاسة عبد الله حمدوك، ويمثل امتدادًا لتنسيقية تقدم بذات الأهداف التي قامت عليها التنسيقية، بينما اختارت المجموعة الأخرى مسمى تحالف السودان التأسيسي الذي سيشكل الحكومة الموازية. 

ومع تكوين التحالف الداعم لحكومة المنفي نجد أنه لم يقف في حد شق تحالف تقدم بل وصل لتنظيمات فاعلة داخل التحالف، حيث أعلن حزب الأمة القومي تبرؤه من مشاركة رئيسه المكلف فضل الله برمة ناصر في التحالف المذكور، ومخاطبته مؤتمره التأسيسي، وتوعد باتخاذ إجراءات صارمة في مواجهته. 

وهو ذات الموقف الذي تبناه الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل في مواجهة القيادي السابق إبراهيم الميرغني، وأعلن عن عدم تمثيله للحزب بسبب عزله من منصبه قبل أعوام، كما عزلت حركة العدل والمساواة سليمان صندل من منصبه بسبب مشاركته مع قوى الحكومة الموازية، وبرزت أيضًا استقالات في عضوية الحركة الشعبية شمال برئاسة الحلو بسبب مشاركته أيضًا، وعلى جانب آخر من مشهد الانقسامات بين القوى السياسية نشطت قوى سياسية وقبلية وجماعات مسلحة أخرى أبرزها الكتلة الديمقراطية والحراك الوطني والمؤتمر الشعبي وتحالف سودان العدالة بطرح وثيقة أعدتها لجنة برئاسة نبيل أديب لإدارة البلاد بقيادة البرهان، الذي تبنى الوثيقة وأعلن عزمه تشكيل حكومة تصريف أعمال من التكنوقراط لمدة 4 سنوات قادمة، ولم ينسَ البرهان مغازلة تنسيقية تقدم عبر شخوصها من هواة الاستوزار للمشاركة في حكومته المزعمة مستهدفًا زرع المزيد من بذور الانشقاق بين أجسام التنسيقية.

تبعث هذه الخارطة الواسعة من الكيانات المختلفة بالرعب في نفوس كل من ينظر لمستقبل ديمقراطي للبلاد وإعادة بناء دولة، حيث تعكس كثرة الكيانات المتباينة في المواقف والرؤى حجم التشرذم للقوى المناط بها تحقيق مبادئ الوحدة والسلام وتنذر بمستقبل مظلم يواجه الواقع السوداني حتى لو انتهت الحرب، فلن تلبث هذه القوى في إثارة حرب جديدة حول المناصب والظفر بأكبر قدر من كيكة السلطة على خراب الوطن المنهك، تفتقر كل مجموعة من المتحالفين لبرامج تعالج جذور أزمة البلاد وانتشالها من واقع العنف والاصطفاف القبلي نحو دولة المواطنة وسيادة الحكم المدني الديمقراطي وحكم المؤسسات، بل أنها تحمل في غالبها رغائب آنية للوصول للسلطة، فتري في مواقفها تجاه أحد طرفي النزاع عبارة عن رافعة تمكنها من بلوغ مكاسب في السلطة إذا ما انتهى صراع المتحاربين لأي تسوية سياسية قادمة ويتضح ذلك في المواقف المتقلبة لغالبية الكيانات والضعف الأخلاقي المبين لقياداتها الذي تعكسه التقلبات الواضحة في المواقف وعدم ثبات المبادئ، وهي السمة التي ظلت تلازم التحالفات السياسية السودانية منذ تواريخها المبكرة ولا تزال، وهي التي أقعدت الدولة السودانية من النهوض رغم امتلاكها كافة المقومات التي تقود إلى ذلك لكن يبقى الفشل على مستوى القوى والنخب السياسية حائلًا دون بلوغ الجماهير لأبسط أحلامها رغم قيامها بثلاثة من أعظم الثورات في تأريخ القارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى