الكنابي.. فيك كاتم أسراري:

السر السيد

السر السيد

 اجترحت، (الكنابي.. فيك كاتم أسراري)، عنوانًا لعرض كتاب (ملامح من المجتمع الريفي)، أولًا بسبب أن الكنابي مقالة ضمن مقالات الكتاب، وثانيًا بسبب أن كلمة “الكنابي”، باتت تحمل عند الكثيرين دلالات ذات طابع تمييزي ينهض على مخيالات عنصرية تصل في بعض الأحيان إلى الادعاء بأن سكانها ليسوا كاملي المواطنة، وبالتالي قد لا يستحقون حتى الحق في الحياة دعك من الحقوق الأخرى، لتمثل هذه الدلالة ضبابًا يحجب سؤال غياب الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه نظيفة وغيره، وفي الوقت نفسه يحجب الحق في المقاومة، إلا أن المفارقة هنا تكمن في أن البعض لا يتكبّد مشقة تصنيف الكنابي ضمن ما يحدد بالريف السوداني مع وجود أوجه عديدة للتشابه، فالريف كما الكنابي يستيقظ على نفس الآهات والظلمات، إلا أنه يحضر بصورة ما في الذهن الكلي الذي ينشد التغيير، بينما تحضر الكنابي معزولة تجرجر أحلامها، وهنا يحمد للكتاب أنه كسر عزلتها ونظر لها ضمن الريف الكبير بمكابداته وأحلامه.

لما كان الكتاب، في قوله الكلي محاولة لرسم صورة للريف السوداني وتحديدًا ريف ما يعرف بـ(وسط السودان)، صورة تجسّد الحياة هناك في عسرها ويسرها، في جمالها وقبحها، صورة تجسّد احتجاج السكان الناعم والخشن دفاعًا عن الحياة التي يحبونها، (إذا ما استطاعوا إليها سبيلًا)، مستنهضين إرثهم الديني والأسطوري، وإرثهم في فنون صناعة الطعام، وفي فنون الغناء والرقص ونسج القصص.

 تناغمًا مع تلك الصورة وإعلاء لتلك الأصوات المكتومة، جاء في صفحة الاهداء: (إلى فلاحي بلادي وكلاّت الموانئ التعابة والغلابة الذين لا يزالون يمسحون عرق جبينهم براحة اليد لكسب لقمة العيش.. إلى المهمشين ومهضومي الحقوق والمهملين مثل حجر ملقى على الأرض).

الكتاب الذي بين يديك عزيزتي القارئة/عزيزي القارئ، سفر شيّق من تأليف الكاتب الشاب  بشارة يوسف أبكر، وكنت قد قرأت مخطوطته قبل صدور طبعته الأولى عن دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع في العام 2025. يقع الكتاب في عدد 152 صفحة من القطع المتوسط، تقوم على 27 مقالة أو فلنقل حكاية، منها: (زيـاره خاطفـة، مويـه دخـن، ملامـح مـن المجتمـع الريفي، القـرى، شكر وعرفان، كادت أن تختفي، ابن وحيد، الغربـة، العودة للوطن، بنـات الجامعـات).

 أحسست وأنا أطالع  هذا الكتاب، على بساطته الظاهرة أنه ينهض على (أسلوب) مختلف فهو يمزج بين الكتابة والمشافهة، ففي أحيانٍ كثيرة أحسست وكأنني أستمع إلى شخص يتحدث معي، وفي أحيانٍ كثيرة أحسست بأنني أقرأ. هذه المراوحة بين موقع المستمع وموقع القارئ، قد تكمُن بعض أسبابها في أن المقالة أو الحكاية لا تنهض على وحدة في الموضوع أو سمه تسلسل وإنما تنهض على تعدد في الموضوعات في المقالة/الحكاية الواحدة، وهذه سمة من سمات السرد الشفاهي، ولعل هذا ما كشف لي عن توفّر الكاتب على قدرات في السرد كبيرة لا يتهيّب فيها المزج بين الفصحى والعامية ليس فقط في المفردات وإنما حتى في طرائق بناء الجملة. وبما أن مقالات الكتاب أو حكاياته، في عمقها البعيد تسعى كما أشرنا إلى إنجاز حضور واقعي للريف، يبدد تلك الصورة  الشائهة التي يرسمها له بعض السياسيين، التي تسعى إلى وضعه باستمرار في مقام الضحية وتغض الطرف عن طرائقه في الاحتفاء بالحياة ومقاومة الموت والقدرات الخلاقة في إدارة الموارد المتاحة، فسكان الريف يبدعون الحياة ومقاومة الموت مستنهضين أديانهم وفنونهم وإرثهم وتقاليدهم في التكافل والتعاون والتناصح المتحرر. هذه الصورة التي يسعى الكاتب إلى تبديدها لا تجعله ينسى في نفس الوقت الإشارة إلى المظالم والتهميش التي يتعرض لها الريف، وكأن الكاتب هنا يتأسى بمقولة  منسوبة إلى د. جون قرنق مفادها (ليس على الريف أن يذهب إلى المدينة ويُماثلها ولكن من حقه أن ينال من امتيازاتها في الحقوق الأساسية كالصحة والتعليم والمياه النظيفة والتمثيل السياسي الحر)، وهنا أستطيع أن أصف الكاتب بأنه يتمتع بوعي سياسي مبدِع، نضحت به مقالات الكتاب أو حكاياته إذ لم يكن غريبًا أن نجد ذلك الحضور الفصيح لبطولات النساء ولفاعلية الدين والموروثات الشعبية والفنون في خدمة الناس وحقن مقاومتهم بالمحبة واليقين والأمل.

 في ختام هذا العرض يجدر بي أن أُورد القليل من بعض المقالات.

فقد جاء في المقالة التي بعنوان دينقي:

(منذ أن رأيناها لأول مرة تتوكأ على عصا تربط طرف ثوبها وتترك يدها اليسرى دون أكمام مثلها مثل إخواننا الجنوبيين، ولا يدري أحد من أين اكتسبت هذه العادة ولا هي أفصحت يومًا ما عن ذلك. تسكن في بيت من طين لوحدها لا يعرف لها ولد، بناتها تزوجن، قد رأينا إحداهن تزورها بعد سنين أو إذ مرضت، عمومًا هي حبوبه الكل يرسل لها الأقرباء والجيران الطعام، يساعدها الكبار والصغار رغم أنها تصنع الطعام بنفسها).

وجاء في المقالة التي بعنوان الكنابي:

(الكنابي هي مساكن صغيرة في مشروع الجزيرة، توجد في نصف أو أطراف أو على حواف الترع أو جنباتها أو وسط وحواف المشروع، مبانيها قديمًا من الطين الجالوص والقش، تشبه سكنًا اضطراريًا كمن يسكن مؤقتًا، بيوتها متعرجة ذات أزقة وشوارع ضيقة، شكل البيوت غير هندسي، تكفي أن تقيهم من حرارة الشمس وزمهريرها وتحميهم من برد الشتاء القارس. بعض الأماكن طينية لا تستطيع عربة أن تسير أو تتحرك في الخريف، ولا إنسان إلا سيرًا على الأقدام.. لكن الناس يتعايشون، حياتهم عادية وطبيعية. من جانب آخر هناك مناطق رملية حمراء تتحرك فيها العربات بعد يوم أو يومين لتساير عجلة الحياة. جميعهم متآلفون ومنسجمون. لا توجد في الكنابي أسواق.. لا كهرباء، ولا ماء).

وجاء في المقالة التي كانت بعنوان دبّاب:

(دبّاب في شخصه شخصان، قويّ البنية، نشيط الحركة ولا يفتر من العمل، دومًا يلبس ملابس شاذة غير متناسقة، يُعرف من بعيد وهو قادم من خلال ملابسه، يرتدي الجلابية مع البنطلون، تارة القميص مع السروال أبو تكة، تارة أخرى فنيلة حمراء مع جلابية، عموما كأن دبّاب خلق لغير المألوف ولغير زمانه، يعمل كل شيء غير مألوف للناس، عرفه الناس وتركوه وشأنه.. مع ذلك ظل فاكهة المجتمع، إذا مرض يتفقده الصغير والكبير والقاصي والداني).

 أخيرا أُذكّر أن من كتب مقدمة الكتاب هو الدكتور سامر عوض ومما جاء فيها:

(تمتزج في صفحات هذا الكتاب، القصص الواقعية بالمشاهدات والملاحظات العميقة التي يقدمها الكاتب حول المجتمع الريفي في السودان).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى