حكيم الجنوب والشمال الصامت آبيل آلير

علاء الدين بشير
علاء الدين بشير

ابيل الير رجل عميق وكتوم جدا لدرجة الغموض .. وغموضه إلى الروحانية أقرب وليس غموض خبث لذلك هو خزينة أسرار سياسية كبرى ولعب ادوارا كبيرة ومهمة للغاية فى الحياة السياسية السودانية سواء من موقعه الرسمى كنائب للرئيس نميرى من خلال دوره الكبير فى التوصل لاتفاقية اديس ابابا مع حركة انانيا بقيادة جوزيف لاقو ثم رئاسته لمجلس التنفيذ العالى الحاكم لاقليم جنوب السودان بعد الاتفاقية ،او من خلال أدواره الكثيرة والكبيرة كشخصية وطنية مستقلة ..

كذلك أسهم الرجل بقدر وافر من جهده وخبرته وحكمته فى التوصل لاتفاقية نيفاشا عام 2005 من خلال علاقته الدافئة مع طرفى الحرب وكنت شاهدا على ذلك حيث استعان به كثيرا وسطاء ايقاد وشركائهم الدوليين المشرفين على الوساطة فى تقريب وجهات النظر وتليين المواقف بين الطرفين المتفاوضين .فقد كان يبقى فى مقر المفاوضات خلال جولاتها المتطاولة التى استغرقت أكثر من ثلاثة أعوام اسابيعا طوالا . ثم إختير لتولى منصب رئيس مفوضية الدستور بعد التوقيع على الإتفاقية .

ابيل الير حريص جدا على تقاليد واسبار الدينكا ،فقد قطع المفاوضات فى كينيا وغادر إلى الخرطوم لزواج ابنته من إبن السفير مثيانق اوبور (إبن خالة قرنق وضابط سابق فى الجيش السوداني) وغادرت الاسرتين الخرطوم إلى مسقط راسهم فى مدينة بور واقاموا الزواج وفقا للطقوس التقليدية لقبيلة الدينكا هناك ثم عادوا مرة أخرى إلى الخرطوم واقاموه على الطقوس الكنسية ثم فى الصالات الحديثة .

كذلك حينما سافرنا برفقته إلى رمبيك العاصمة السياسية للحركة الشعبية عام 2005 ضمن أعمال مفوضية الدستور وحينما نزلنا فى مدرج مطار المدينة الترابي وكنا فى شهر مايو كانت الأمطار تهطل بغزارة ومع ذلك أصر على ان نقوم بطقوس الترحيب كاملة قبل دخولنا المدينة حيث ذُبِح ثوران ابيضان وقفز هو اولا فوقهما وطلب منا فى الوفد الإعلامى المرافق له أن نقوم جميعا بذلك ويعنى ذلك إرهاصا وعلامة للسلام والمصالحة وفقا لتقاليد الدينكا وكل القبائل النيلية فى جنوب السودان .. أذكر انه قفز بعضنا (انا منهم) وامتنع آخرون بدعوى أنها طقوس وثنية لن يشاركوا فيها . وبالنسبة لمولانا ابيل الير فإن إحياء هذه الطقوس هو تمسك بثقافة الاسلاف فى جوانبها الداعية للخير والسلام والنماء وإحلال البركات فى الأبناء والاحفاد .

كذلك شارك اهالى المدينة الحزينة التى كانت فى حال من الدمار الرهيب نتيجة للحرب فرحتهم بهطول المطر مبكرا بالرقص والغناء والتلويح ب(الكوكاب) (الرمح) رمز الخصب والنماء عندهم عبر طقوس سبر المطر عند الدينكا .. ثم صحبنا فى اليوم التالى إلى مدرسة رمبيك الثانوية التى درس بها هو والزعيم الراحل جون قرنق ،ولكنه امتحن الشهادة من مدرسة وادى سيدنا فى ام درمان بسبب الظروف الأمنية فى الجنوب بعد اندلاع التمرد هناك.. وقد درس فى رمبيك الثانوية اغلب النخب فى جنوب السودان وهى مدرسة عريقة جدا أسسها الإنجليز فى الأربعينيات من القرن الماضى .

كانت شركته للمحاماة تقع فى عمارة بشارع الطيار مراد قبالة بنك الخرطوم وظل حسن (دنقلاوى) يعمل سكرتيرا خاصا ومديرا لكل التفاصيل الخاصة بابيل الير ولسنوات طويلة جدا ..

فى مطلع الالفين لاحقت حسن هذا لايام حتى اتمكن من الظفر بحوار مع الرجل الكتوم والممتنع عن الحديث للاعلام .. ونجح اخيرا فى تمكيني من الجلوس إليه ولكنه اعطاني ساعة من وقته قضاها معى فى الضحك والملاطفة والكلام بالقطارة واعتذر لى بانه ممتنع عن الحديث للاعلام ولكنه متى قرر الانفتاح ساكون اول الذين يتحدث إليهم .

كرت مسبحة الايام والشهور وتجاوزت العامين .. فحينما لاحق نظام البشير تجار سوق ليبيا وضيق عليهم بعد مفاصلة الإسلاميين وخروج الترابي ثم تجمع نذر أزمة دارفور ،كان أبيل الير هو وكيلهم فى قضاياهم المرفوعة امام المحاكم .. لكن ذات نهار فوجئت بحوالى عشرين رجلا يرتدون الجلاليب ويدلفون على صحيفتنا .. نده على موظف الاستقبال بأن أشخاصا فى الخارج يريدون مقابلتك .. خرجت ووجدت العدد الكبير ولكنى لم اتعرف على اى أحد منهم .. أخبرني من انتدبوه متحدثا باسمهم انهم مرسلون لى من مولانا ابيل الير .. قال لهم اذهبوا لصحافى بصحيفة (الصحافى الدولى) اسمه علاء الدين بشير واعرضوا عليه قضيتكم !! ..قلت لهم هل التوجيه من حسن ام ابيل الير ..اجابوني بانهم قادمون اليّ من ابيل الير شخصيا .. اندهشت جدا لأننى كنت لا زلت اُعتَبَر من الصحافيين المغمورين ! .

درس ابيل الير القانون فى جامعة الخرطوم وتخرج فيها خلال النصف الأول من ستينيات القرن الماضى وعمل بالقضاء لسنوات قبل ان يلج عبر بوابته إلى دنيا السياسة ثم امتهن المحاماة بعدها وكتب كتابه الأشهر باللغة الانجليزية (جنوب السودان والتمادى فى نقض العهود والمواثيق) ثم كتاب ثانى عن القوانين العرفية فى جنوب السودان وآخر ثالث عن العادات والتقاليد فى قبيلة الدينكا . وهو ينحدر من ذات المدينة التى ينحدر منها الزعيم الراحل د. جون قرنق وهى مدينة بور بولاية جونقلى حسب التقسيم الادارى لنظام الإنقاذ والذى لا يزال العمل سارى به فى دولة جنوب السودان بعد الاستقلال ،أو مديرية اعالى النيل وفقا للتقسيم الادارى القديم .

وابيل الير مسيحى ملتزم جدا بحسب الصديق الصحافى والكاتب ،اتيم سايمون مبيور الذى ينحدر من مدينة بور ويمت بصلة قرابة لمولانا الير ، مبينا ان اسمه الأول يعكس هذا الالتزام الديني ،فآبيل هو الترجمة الانجليزية للاسم قابيل بينما يعني اسم (الير الهواء الطلق) فى لغة الدينكا .

لا يزال الرجل الحكيم ،ابيل الير يؤثر الكتمان حتى بعدما رحل جنوبا . وقد أخبرني اتيم أنه يعيش فى منزله بمدينة جوبا ولا يغادره الا نادرا جدا ولكنه اصبح يعانى من ضعف شديد فى الذاكرة بسبب كبر السن ويتذكر الناس والاحداث بصعوبة شديدة ..

درج أهل الصحافة والاعلام على وصف مولانا ابيل الير بصفة (حكيم الجنوب) وهى صفة هو بها حقيق لانه انتهج منهجا سلميا لنصرة قضية شعبه واهله فى جنوب السودان منافحا عنهم بالكلمة المكتوبة الرصينة والسمت الوقور وقوة الخلق والإباء وتجنب الفتن والسعى بالمحبة والخير بينهم واشقائهم فى الشمال . وهو عندى حكيم الشمال أيضا لانه عاش بين النخب السياسية فى شمال السودان مهديا لهم عيوبهم ومذكرهم بالخذلان ونقض العهود ومعرفا لهم بقيمة شعبه وفداحة فعلهم السياسي فيهم فلم يجدوا ثغرة فيه ليأتوه من قبلها رغم تربصهم به الدوائر .

ربما أن الرجل الكتوم ابيل الير عازم على اصطحاب أسراره المدفونة عميقا فى صدره معه إلى لحده .. بعد عمر طويل إن شاء الله .

الشارقة – 18 فبراير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى