الحركة الإسلامية.. مشروع تبدد ولن يتجدد


أفق جديد
جسد اللواء أمن معاش جمال الدين محمد حسين “زمقان”، المسجى في أحد غرف قصره بحي الراقي جنوبي العاصمة الخرطوم، يحكى فصلًا من فصول صراعات الإسلاميين وخلافاتهم الدامية على عكس بقية القوى السياسية السودانية، والرجل الذي يعد أحد أبرز ضباط جهاز الأمن المنتمين للحركة الإسلامية، وتخرج من كلية الهندسة بجامعة الخرطوم في ذات الدفعة التي كان فيها مدير جهاز الأمن الأسبق صلاح قوش ونائبه حسب الله عمر، قتل بطريقة غاية في البشاعة، وكذبت الصور المسربة للجثمان على الفور الرواية التي بادرت الحركة الإسلامية لتسويقها بأن زمقان قتل في معركة استمرت لعدة ساعات مع منسوبي الدعم السريع، وفيما لزمت قيادة الدعم السريع الصمت، إزاء ملابسات ما حدث في ليل الجمعة 21 يوليو من العام 2023، أضافت العديد من المصادر الجريمة إلى سجل التنظيم الإسلاموي، وتصفيات منسوبيه خلافاتهم التي دائمًا ما تكون دامية، معتبرة الجريمة التي شهدها حي الراقي في الخرطوم وغطى عليها غبار المعارك الدائرة في العاصمة مؤشرًا مبكرًا لخلافات الحركة الإسلامية المتجذرة وخرجت من حيز الكتمان إلى مربع العلن بعد ما لا يقل عن العام ونصف العام، كاشفة ما آل إليه التنظيم الذي حكم السودان بالحديد والنار لثلاثين عامًا، إذ عصفت الخلافات بكيانها الرئيسي – المؤتمر الوطني – على نحو لم يشهده التنظيم من قبل.
فبعد نجاح الحركة في التربع على سدة الحكم بالسودان لنحو ثلاثين عامًا، منفردة تارة ومؤتلفة مع قوى أخرى تارة ثانية تحت واجهة المؤتمر الوطني، باتت اليوم على مفترق طرق إثر توزع قياداتها من الصف الأول بين تكتلات داخلية سمتها التشكيك والتشاكس والخلاف، ويصف محدثي الحركة الآن بأنها “جنازة بحر، لا يستطيع أهلها الاقتراب منها ولا الابتعاد” ويضيف أن المجموعات المتناحرة لا تقل عن 8 مجموعات على أقل تقدير، ويقول الأكثر خطورة هو الصراع داخل المجموعة العسكرية والأمنية التي تنقسم إلى عدة تيارات قائمة على ولاء القائد، فهناك مجموعة تدين بالولاء لمدير جهاز الأمن الأسبق صلاح عبد الله قوش، ومعظم منسوبيها من ضباط وأفراد جهاز الأمن، وهناك مجموعة ضباط القوات المسلحة وهؤلاء مرتبطين بشكل كامل مع علي كرتي، ومجموعة المجاهدين السابقين التي تربط إلى حد ما بضابط الجيش المحال للمعاش العميد محمد إبراهيم الشهير بـ”ود إبراهيم”، ويمضي قائلًا هذه المجموعات مشتتة الولاء ولا رابط بينها بل إنها دخلت في صراعات مكتومة أخطرها كان في الأيام الأولى للحرب عندما تسربت مقرات آمنة كانت تستخدمها قيادات الحركة الإسلامية وكاد أن يقع عدد منهم في قبضة الدعم السريع.
توصيف وتصنيف:
ويقول أما الفئة الثانية هي فئة السياسيين وهؤلاء مقسمين على سبع مجموعات وأيضًا بينها ما صنع الحداد، ووصل الأمر بينهم إلى القطيعة المجتمعية، لكن أقواها وأكثرها تأثيرًا وبروزًا هما مجموعتان الأولى ينشط فيها على كرتي، واستمالت مؤخرًا كل من أحمد هارون وعلي عثمان طه ويدعمها بطرف خفي الرئيس المعزول عمر البشير، والمجموعة الثانية هي مجموعة إبراهيم محمود حامد ود. نافع علي نافع واستمالت مؤخرًا عددًا من كوادر الحركة الإسلامية الموجودين في تركيا، ويقول إن الخلاف بين المجموعات رغم إن ظاهره المؤسسية كما يروجون لكن الحقيقة أن الخلاف مرحل منذ ما قبل سقوط النظام الذي عُرف وقتها بصراع “الشوايقة والجعليين” الذي استثمره البشير وقتها للإطاحة بعلي عثمان ونافع علي نافع بحسب محدثي، الذي مضى قائلًا أذكى ذلك الصراع سقوط النظام وتوصيف ما جرى ففي الوقت الذي ترى مجموعة كرتي أن الذي جرى في 11 سبتمبر هو تغيير يجب التعامل معه وفق معطياته، والذهاب إلى مربع جديد ترى المجموعة الأخرى أن ما جرى هو مجرد خيانة تمت من اللجنة الأمنية، ويجب استعادة السلطة وبقاء المؤتمر الوطني وأجهزته.
ويضيف أن تلك الخلافات أقعدت بالحركة الإسلامية وجعلتها “نمر من ورق”، بل تحول المشروع بكلياته إلى مشروع حماية للقيادات من الملاحقة الدولية التي تمددت قائمتها تناهز العشرة من القيادات ملاحقين إما عبر المحكمة الجنائية الدولية أو عليهم عقوبات أمريكية وأروبية، ويبرز ذلك بأن التيارين الآن قيادتهما من قائمة العشرة، وهم أحمد هارون مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، علي كرتي عليه عقوبات أمريكية، محمد عطا الذي انتخب مؤخرًا في مؤتمر تركيا أمينًا عامًا للحركة الإسلامية جناح إبراهيم محمود عليه عقوبات أمريكية.
تطورات الصراع
خلال ديسمبر 2024 أقر مجلس شورى المؤتمر الوطني المحلول تعيين أحمد هارون رئيسًا للحزب خلفًا لإبراهيم محمود، وسط خلافات حادة وتسريبات تتعلق بالتمويل وواجهة جديدة بدعم الرئيس المعزول عمر البشير وأمين عام الحركة الإسلامية علي كرتي.
وأعلن مجلس شورى الحزب، برئاسة عثمان كبر، إنهاء تكليف إبراهيم محمود حامد من رئاسة الحزب، وتجديد تفويض أحمد هارون رئيسًا للحزب اعتبارًا من 7 ديسمبر. وأشار المجلس في بيان إلى أن الخطوة جاءت بعد مهلة 21 يومًا منذ اجتماع المجلس في 14 نوفمبر الماضي بمدينة عطبرة في ولاية نهر النيل، واختيار هارون رئيسًا مع تعليق الاختيار لفتح المجال أمام مبادرة لرأب الصدع قادها الأمين العام الأسبق للحزب إبراهيم أحمد عمر. في المقابل رفضت مجموعة المكتب القيادي، التي يقودها إبراهيم محمود حامد ويؤيدها السميح الصديق والحاج آدم ومدير جهاز الأمن والمخابرات السابق محمد عطا، نتائج اجتماع مجلس الشورى وعدّت كل قراراته باطلة.
وتسرب رد اللجنة المكلفة من المكتب القيادي للحزب المحلول على رئيس مجلس الشورى المناوب بعد لقائها به في 19 نوفمبر الماضي.
واتهم الرد المسرب الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي بحجب الأموال والموارد عن الحزب منذ الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، وتمويل حركة المستقبل للإصلاح والتنمية بقيادة عبد الواحد يوسف. وأشار الرد إلى أن علي كرتي، المطلوب لدى السلطات الأمنية منذ عزل البشير، وأحمد هارون المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، عملا على تشكيل هياكل موازية تحت اسم “المنظومة”.
وتضم “المنظومة” أعضاء من حزب المؤتمر الوطني، وحزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الشيخ الراحل حسن الترابي، وحركة الإصلاح الآن. وأفادت المصادر ذاتها بأن كرتي وأنصاره يتبنون خيار التخلص من تركة المؤتمر الوطني وإنزال لافتته، مع تبني واجهة حركة المستقبل للإصلاح والتنمية.
وتوقعت أن تكون الخطوة القادمة في الصراع داخل حزب البشير المحلول هي فصل مجموعة المكتب القيادي بزعامة إبراهيم محمود. وأوضح الرد المسرب للجنة المكتب القيادي أن البشير أبدى من داخل محبسه مساندة واضحة لأحمد هارون، وطلب من رئيس مجلس الشورى عثمان كبر دعم الرجل، وإنه سيبذل كل جهوده لتنصيب هارون رئيسًا للحزب. إلى جانب ذلك، يحظى أحمد هارون بدعم من أسامة عبد الله، المدير السابق لوحدة تنفيذ السدود، وعلي كرتي، بينما يقف عدد من كبار شيوخ الحركة على الحياد، بحسب المصادر.
صراع على التركة
يبدو واضحًا للعيان أن هناك صراعاً قوياً على “ميراث الحركة الإسلامية” كما يقول قيادي في الحركة لـ”أفق جديد”، حيث يعود بذاكرته إلى الأشهر التي أعقبت المفاصلة التاريخية بين الإسلاميين في العام 1999، عندما ساد اعتقاد واسع أن السبب الرئيس للخلافات هو غياب التنظيم والمرجعية والمحكم الذي يفصل في النزاعات، فأوصت لجنة رأب الصدع التي نشطت لرتق الفتق بين الإسلاميين بأن تعود المرجعية للتنظيم.
يروي القيادي الإسلامي الذي فضل عدم الإشارة إلى اسمه أنه بعد وقوع المفاصلة برز ما يعرف “بالكيان الخاص” الذي حرص القائمون على أمره لدفع المتخاصمين في الجناحين إلى نسيان ما عرف بتياري “القصر والمنشية” والتنادي لاجتماع تأسيسي يكون فيه هذا الكيان حاكمًا وموجهًا وواضعًا للاستراتيجيات أو فيما عُرف بالحاءات الثلاثة (الحزب والحكومة والحركة الإسلامية).
وقتها يقول القيادي إن الزعيم الإسلامي الراحل حسن الترابي بدا ميالًا للتجاوب مع دعوات تأسيس الكيان الخاص والمشاركة في الاجتماع فهو لم يكن فيما يبدو مستوعبًا لفكرة التخلي عن كل خططه التي أوصلت التنظيم للسلطة والسطوة تحت ستار العسكر، لكن العديد من القادة الذين ناصروه كانوا متمسكين بالمفاصلة وتأسيس حزب جديد، فانتصرت رؤيتهم في النهاية ليختار الترابي تأسيس المؤتمر الشعبي وكان حريصًا أن يبقي المسافة بينه والمؤتمر الوطني بعيدة إلى أقصى حد، فكان عنيفًا في معارضته.
بعد فترة من الوقت تبدد حلم (الحاءات الثلاث) وأن يكون الكيان الخاص حاكمًا وموجهًا وواضعًا للاستراتيجيات، فمجموعة القصر على رأسها علي عثمان محمد طه الذي كان بجانب رمزيته في التنظيم يمثل الحكومة التنفيذية، لم يظهروا حماسًا للفكرة وتحدثوا عن أنها ستعيد مسألة الظاهر والباطن من جديد وبدلًا من أن يكون الخلاف بين البشير والترابي سيتمدد ليكون بين الحكومة والحزب والحركة الإسلامية.
كان مأمولًا وفقًا للخطة أن يضع الحزب الاستراتيجيات لكن يحكم بحكومته – الحزب والحكومة – بينما ينحصر دور الحركة الإسلامية في التزكية والتهذيب، فباتت تعقد مؤتمرها كل أربع سنوات وانزوى دورها إلى حد كبير برغم أن كبار قادتها تناوبوا على أمانتها العامة فبعد ابتعاد الترابي بحزبه، اختير إبراهيم أحمد عمر ثم علي عثمان وكمال عبيد والزبير محمد الحسن، لكن الحركة منذها خسرت أهميتها التي ميزتها في عهدها الأول.
والشاهد -وفقًا للقيادي الذي تحدث لـ”أقق جديد” – أن الحاءات الثلاثة نفسها كانت تمور بخلافات عميقة أوشكت كياناتها في مرات عديدة على الانشقاق لكن في كل مرة كان يتم تداركها واحتوائها.
عندما حدث التغيير في 11 أبريل 2019 كان الزبير محمد الحسن يتولى أمانة الحركة الإسلامية وينوبه علي كرتي. لم يكن محدثي واثقًا من أن الأخير انتخب لهذا المنصب، لكنه يشير إلى أنه بموجب النظام الأساسي فمن حق الأمين العام اختيار مساعده أو نائبه، وكان طبيعيًا أن يقع اختياره على كرتي بحكم العلاقات التي تجمع بين الزبير وعلي كرتي فهما أبناء “الدفعة” وعلى صلة صداقة وجوار وخاضا سويًا تجربة العمل الخاص، وكرتي الذي كان فقد منصبه التنفيذي في وزارة الخارجية وقاطع المؤتمر الوطني لم يبق أمامه سوى هذا المنصب فبقي كما يقول المصدر “متشبثًا به”.
عندما اقتيد الزبير محمد الحسن إلى السجن إثر تداعيات الثورة على النظام، تولي علي كرتي بحكم منصبه الأمانة العامة للتنظيم، ساعده في ذلك تمتعه بامكانيات مادية كبيرة وشبكة علاقات واسعة بواسطة نافذين في المؤسسة العسكرية. وبعد وفاة الزبير عقد كرتي مجلسًا للشورى حسب ما تتيحه اللائحة في الحالات الاستثنائية. ويقال إن حضوره ناهز الـ 1500 عضو وبات بذلك أمينًا عامًا للحركة الإسلامية وهذا بالضبط ما أثار جدلًا واسعًا.
ففي بادئ الأمر رفضت مجموعة كوبر – كما يطلق عليها البعض – الاعتراف بكرتي، وتضم هذه المجموعة كل من عمر البشير، وأحمد هارون، وعبد الرحيم محمد حسين، حيث كانت تسود وسط هذه المجموعة وغيرها أن كرتي وراء دخولهم السجن، بل إن جميع قادة الصف الأول من قيادات الحركة الإسلامية ساد وسطهم اعتقاد عميق بأن كرتي هو المسؤول عن إدخال الجميع إلى السجن بمن فيهم قادة المؤتمر الشعبي علي الحاج وإبراهيم السنوسي، فكلما شعر الرجل -وفقًا لمحدثي- بثمة تحركات سارع لاجتثاثها، وبدا ذلك ظاهرًا عندما تم سجن كل من أنس عمر وإبراهيم غندور بعد تحركاتهم القوية وسط العضوية وفي الدعوة لإفطارات رمضانية.
ويضيف: “كرتي كان يريد التحرك في أجواء هادئة ويتصرف وفق ما يراه دون تشويش، لذلك التفت حوله مزاعم التورط في سجن الآخرين” وهو ما يؤكد كذلك علاقاته القوية بقيادات الجيش من الصف الأول، على الرغم من أن كرتي نفسه -وفقًا للمصدر- يحاول دائمًا نفي تلك الصلة ويصف كل ما يثار من هذا القبيل بأنه شائعات، لكن قيادات المؤتمر الشعبي على سبيل المثال تتمسك بدوره القوي في تحريك خيوط المشهد خاصة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.
عندما اقتيد إبراهيم غندور إلى السجن أوكل أمر التنظيم لإبراهيم محمود، الذي بدوره دعا لمجلس شورى حول التكليف الذي جاءه من غندور لـ”تكليف شرعي”، وعليه لم يتمكن غندور من العودة لاستلام رئاسة الحزب بعد خروجه من الحبس، فالبشير بالنسبة لهذه المجموعة استقال منذ وقت باكر وسلم الرئاسة لأحمد هارون وعندما سجن الأخير، تم توكيل غندور الذي أحالها عند حبسه لإبراهيم محمود، فأقام الرجل شوراه وتربع على الرئاسة ولم يتمكن غندور بعد خروجه من إعادتها فهو لا يملك القوة الصلبة في الحركة الإسلامية، فرغم إمكانياته الأكاديمية وقدراته الدبلوماسية لكنه في نظر الإسلاميين “لا يعتبر أصيلًا في التنظيم”.
غبينة ديسمبر
هكذا تعددت المراكز في المؤتمر الوطني فبرزت مجموعة تركيا التي تؤيد إبراهيم محمود، وأخرى في الداخل تناصر أحمد هارون، وثالثة في القاهرة تبدو أقرب إلى علي كرتي، وحاول علي كرتي التحرك في عدة اتجاهات كمحطات مؤقتة حتى لا يغيب التيار الإسلامي العريض، وهذا يوضح بجلاء التخطيط المدروس للعودة إلى السلطة، ففي العقلية الجمعية للإسلاميين بدت ثورة 2019 التي أطاحت بحكمهم انتقاصًا من هيبتهم وسطوتهم التي بنوها على مدى 30 عامًا. فكانت الخطط الموضوعة هي محاصرة قوى الحرية والتغيير والعمل على الفتنة بينهم والجيش، يقول محدثي “حتى فض الاعتصام فيه أسرار كثيرة ثم الانقلاب وهكذا”.
ومن وجهة نظره فإن الذي فض الاعتصام كان يريد “إهانة الثورة” لكن النتائج التي أعقبته لم تكن محسوبة، ويرى كذلك أن انقلاب 2021 كان مؤشرًا لاستعجال الإسلاميين للعودة إلى السلطة، وهو ما كشفته شهادات القيادي في المؤتمر الشعبي محمد بدر الدين الذي تحدث عن تلقيهم عرضًا من المؤتمر الوطني للانضمام إلى تأييد الانقلاب وكيف أنهم عارضوه بشدة، وبالتالي لم يغير الانقلاب من خلافات الإسلاميين.
الحرب وجودية
يعتقد المصدر القيادي إن التغيير الحقيقي بين الإسلاميين أحدثته الحرب بين الجيش والدعم السريع، فهي في نظرهم “حرب وجودية” إما هم أو الدعم السريع، ويعتقدون كذلك أن الجيش استثمار يخصهم لا يمكنهم تركه خلفهم بأي حال، وبالتالي استماتوا في تقويته فبذلوا معه مجهودًا كبيرًا لتقويته باستثمار علاقاتهم الأزلية بتركيا وإيران وحتى مصر بقدر ما، بل دفعوا بأبنائهم للقتال بجانب الجيش ومنحوه خبراتهم وفي ذات الوقت كانت الحرب سانحة لإعادة بناء التنظيم على نحو ما.
إذًا بدا جليًا أن حرب أبريل وحدت القيادة، وجرت نقاشات بين المختلفين توجت بالاتفاق على الدعوة إلى اجتماع حاسم، وبالفعل تم التوافق على اختيار أحمد هارون لرئاسة الحزب بدعم من علي كرتي ليكون وللمرة الأولى الحركة والتنظيم في بوتقة واحدة، لكن مجموعة إبراهيم محمود لم تعترف بهذا الاختيار.
المؤكد أن القوة الصلبة تبقى لدى أحمد هارون صاحب الإمكانيات الحركية الواسعة مسنودًا بالإمكانيات المالية لدى علي كرتي، لكن المصدر القيادي لم يكن قادرًا على استيعاب كيفية اختيار هارون المطلوب للمحكمة الجنائية على رأس التنظيم، فهي خطوة تبقي القائمين عليها كما يقول كأنهم “خارج التاريخ”.
يرى قيادي آخر يقف على الحياد بين هذه التيارات أن أصل الخلاف بين المجموعتين أن الأولى بقيادة “كرتي” باتت غير راغبة في استمرار المؤتمر الوطني بأسباب انتهاء صلاحيته بانتهاء الحقبة التي ساد خلالها، ويضيف يريد علي كرتي أن ينتقل العمل السياسي اليومي من المؤتمر الوطني إلى حركة المستقبل الواجهة الجديدة التي استحدثت لتكون خلفاً له، بينما يستمسك إبراهيم محمود ويدعمه الحاج آدم يوسف وإبراهيم غندور باستمرار المؤتمر.
ويشير القيادي إلى ثمّة تيارات أصغر وأقل وقعاً لكنها تتمحور حول أشخاص على نسق مجموعة مدير الأمن السابق صلاح قوش ومناصروه، لكنها مجموعات تميل في كل مرة نحو مجموعة من المجموعات الرئيسية إذ لا تشكّل ثقلاً وسط عضوية التنظيم.
خلافات الشعبيين
على الجانب الآخر من الإسلاميين في المؤتمر الشعبي، فالانقسام تعاظم قبل الحرب وقبل ثورة 2019، حيث كانت إدارة علي الحاج للحزب محل تحفظ كثير من نافذيه، لاحقًا تبلور الصراع والخلاف على أساس جهوي، لكن المؤكد أن علي الحاج لديه سوء ظن مطلق بالعسكر وبالمؤتمر وطني.
وعلى خلفية الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 تعاظم الريب بين علي الحاج والأمين العام المكلف بشير آدم رحمة وثلّة من قيادات التنظيم بعد اتهامهم بدعم الانقلاب وتأييده
بعدها، تصاعد الخلاف لمدى أصدر خلاله الأمين العام قراراً بفصل ذات المجموعة المتهمة بموالاة الانقلاب ومنذئذٍ رفضت تلك القرار ومضت نحو شورى تعزل الأمين العام للتنظيم، وإذ افترقت الطرق بالمجموعتين فقد مضت مجموعة الأمين العام إلى التقارب مع قوى الحرية والتغيير ومشروعها المتمثل في الاتفاق الإطاري، بينما انخرطت المجموعة الأخرى ضمن أنشطة المعارضة المناهضة لحكومة عبد الله حمدوك وحاضنته السياسية “الحرية والتغيير” رافضة للاتفاق الإطاري.
بعد الحرب انخرطت مجموعة الشورى ضمن مجموعات المقاومة الشعبية تقاتل إلى جانب الجيش بينما لا يزال علي الحاج يستمسك بالتقارب مع “تقدم” قبل أن يتم نعيها رسميًا.
رفض عديد من قادة المؤتمر الوطني التحدث عن مآلات الخلافات الحالية في الحزب والحركة الإسلامية امتثالًا لمناشدة أطلقها خلال يناير الماضي القيادي إبراهيم أحمد عمر خص بها كل من إبراهيم محمود وأحمد هارون وعضوية الحزب لطي صفحة الخلافات. قال فيها “نناشدكم بحق الله وحق الوطن وحق الشهداء وحق الأخوة التي استمرت بيننا لعقود من السنوات أن توقفوا أي نشاط يفاقم الخلاف وإن كان من استحقاقكم السياسي كما تعتقدون، أو من أي إستحقاق آخر ترونه إلا أن يكون في ذلك معصية لله رب العالمين. وأن تعملوا معنا لعقد مجلس الشورى بأقرب فرصة لحل الخلاف الذي بينكم”.
إغراء
يرى القيادي الإسلامي صديق محمد عثمان أن المؤتمر الوطني انقسم وخرج عن مشروع الحركة الإسلامية لأنه “تم إغراؤه بالقبول ضمن مشروع سياسي محدود”.
يقول في حديثه لـ”أفق جديد” إن هذا المشروع (الوطني) الذي تم طرحه في نيفاشا كان عبارة عن إعادة ترميم لمؤتمر الخريجين كمنصة ومرجعية للعمل السياسي، وقتها تم وعد علي عثمان بمنحه جائزة نوبل للسلام إذا أنجز اتفاق السلام الشامل الذي كان في جوهره إكمال لسياسة عزل الجنوب عن الشمال وتسليم الجنوب لجون قرنق مقابل تنصيب علي عثمان زعيمًا للشمال.
يشير صديق إلى أن هذا المسار معضلته إنه تجاهل أن مؤتمر الخريجين نفسه كان قد دخل في صراع شديد مع السيدين- المهدي والميرغني- كزعيمين وراعيين ثم ما لبث أن تفكك بسبب أن أعضاءه جميعًا أنداد ولا يقبلون ببعضهم البعض.
ويتابع “هذا بالضبط ما حدث بعد نيفاشا إذ اندلعت الخلافات داخل الوطني بين نافع وعلي عثمان ثم ظهرت تطلعات لآخرين مثل صلاح قوش”.
ومن وجهة نظر صديق فإن الصراع الأكبر كان بين كتلة الوطني المركزية وبين أطراف البلاد ممثلة في كردفان وبورتسودان والقضارف باعتبارها جنوب شرق، أما صراعات الوطني حاليًا تتركز حول مراكز القوة والنفوذ السابقة.
ويتابع: “علي كرتي باعتباره خليفة الزبير أحمد حسن يستمد نفوذه وقوته من موقعه القديم في العمل العسكري ويستقوي ببعد جهوي من أبناء نهر النيل”. ومعضلة هذا المعسكر كما يقول القيادي الإسلامي، إن النفوذ فيه متنازع بين كرتي من جهة ونافع كأب روحي للأجهزة الأمنية من جهة ومحمد عطا من جهة أخرى.
هذا المعسكر يحاول التحالف مع أحمد هرون ضد إبراهيم محمود وهو نزاع قديم أيضًا بدأ بين فيصل حسن وإبراهيم محمود. ويعتقد صديق أن جماعة نافع أنضج سياسيًا حيث يدركون وجود امتدادات جهوية بين نهر النيل وشرق السودان وبالتالي تتعاظم تعقيدات المشهد عند محاولة عزل إبراهيم محمود.
ويستصعب صديق التكهن بمآلات تطورات هذه الخلافات خاصة وأنه الآن أكملت الفترة الانتقالية إضعاف القوى والكيانات السياسية المركزية ومزقتها بحيث يستحيل ترميمها، ثم أكملت الحرب إضعاف الدولة نفسها وألحقت بمؤسساتها أضرارًا جسيمة. ويشير إلى أن صراع هذه التيارات للسيطرة على ما تبقى من مؤسسات ونفوذ سيكون عنيفًا جدًا وفي الوقت ذاته ستتبارى في إظهار الولاء للخارج ويردف: “ربما نشاهد ما هو أسوأ مما قدمه قادة الحرية والتغيير خاصة في ملفات مثل التطبيع مع المشروع الإبراهيمي”. – في إشارة إلى التطبيع مع إسرائيل.
ويتفق القيادي الإسلامي الذي حدثني قبلًا مع وجهة نظر صديق بصعوبة ترميم خلافات تيارات الحركة الإسلامية، التي ستنفجر بشكل مخيف فور انتهاء الحرب الحالية التي يغطي غبارها على الكثير من الجرائم التي حدثت خلالها ويضيف بأسى: “الحركة الإسلامية مشروع تبدد ولن يتجدد”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى