الجنرال البرهان في متاهته: التعديلات الدستورية تكريس لسلطته المطلقة وبحثًا عن شرعية مفقودة
سمير شيخ إدريس
(1)
أدخل الجنرال البرهان عددًا مما أسماه بالتعديلات على الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أغسطس 2019، التي شكلت خريطة الطريق حول أسس وهياكل السلطة خلال الفترة الانتقالية، وتم تعديلها في أكتوبر 2020 بإضافة اتفاق جوبا لسلام السودان بين الحكومة الانتقالية وأطراف العملية السلمية لبنود الوثيقة، وقد نشرت سلطة البرهان ما قامت به من تعديلات في الجريدة الرسمية وأعلنت نفاذ بنود التعديلات من تأريخ النشر، وهي المرة الثانية التي يقوم فيها البرهان بتعديل الوثيقة الدستورية، وقد كانت الأولى عند انقلابه على المكون المدني شريك الحكم وممثل الثورة في 25 أكتوبر 2021، حيث قام بإلغاء كل البنود التي تشير لقوى الحرية والتغيير وأبقى على المواد التي تمنح الشرعية لقوات الدعم السريع باعتبارها شريكه في الانقلاب وأبقاها في السلطة لحين الانقلاب عليها هي الأخرى في التعديلات الأخيرة بإلغاء كافة البنود التي تتناول قوات الدعم السريع وما تمنحها من ميزات في مشاركة السلطة، وبالنظر لهذه التعديلات من جانب البرهان للوثيقة الدستورية مؤخرًا وما سبقها من تعديلات نلاحظ أن أصل الوثيقة لم يعد موجودًا بما تم فيه من حذف كثير من المواد وإضافة بنود جديدة وأصبح المنتوج النهائي مسخًا جديدًا خطته أيدى البرهان العابثة إضافة لما شكلته تلك التعديلات من خروقات قانونية تجعلها في حكم البطلان من الأساس مهما حاول البرهان من صنع ترقيعات قانونية تمنحه الشرعية في السلطة والحكم التي فقدها منذ انقلابه المشؤوم .
(2)
أبرز التعديلات التي أجراها البرهان توضح نيته في محاولة الهيمنة على السلطة، ذاك المسعى الذي ظل يطمح إليه منذ فض الاعتصام ومرورًا بانقلابه على الشريك المدني وانتهاء بحربه على شريكه الانقلابي المتمثل في قوات الدعم السريع، حيث عزز من سلطة العسكر في مجلس السيادة بمنحهم ستة مقاعد ما يجعل كفة الأغلبية في اتخاذ القرارات في أيديهم، وجعله السلطة الأعلى برئاسة قائد الجيش، وبذا يكون قد كرس السلطة في يده واعتباره رئيسًا للدولة وأمن على بقائه في السلطة لمدة 39 شهرًا من تأريخ نشر التعديلات، كما كرس في يد المجلس الذي يترأسه مع بقية العسكر بموجب التعديلات وضع وتنفيذ السياسة الخارجية وتعيين وإعفاء رئيس الوزراء، وحكام وولاة الولايات ورئيس القضاء ونوابه ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من مجلس القضاء العالي، الذي سيكونه بنفسه ويترأس جميع القوات النظامية وله حق تعيين وإعفاء قائد الجيش ومدير المخابرات ومدير الشرطة بتوصية من وزير الداخلية، الذي سيعينه بنفسه، وإعلان حالة الطوارئ وإعلان الحرب، كما أقر لإضفاء بعض البهار على سلطته الاستبدادية وانفراده بالحكم سلطة تشريعية صورية لإجازة عديد من القرارات مكونة من مجلس السيادة الذي يترأسه بأغلبيته العسكرية ومجلس الوزراء الذين يعينهم بنفسه، وهي خطوة تفتقد الشرعية الدستورية فهي مؤسسات من صنع البرهان لهندسة شكل سطوته على الحكم، ولعل أبرز التعديلات اللافتة هي إلغاءه المادة (16) المختصة بالتحقيق في جريمة فض الاعتصام واستبدالها بنص مائع ينص على (تقديم كل من أجرم في حق الشعب للعدالة)، وبإلغاء هذا النص يقر الجنرال بكل الغباء بمسؤوليته أو اشتراكه في الجريمة التي ظل هاجس خوفه من العقاب بسببها ملازمًا له وكان سببًا في قيامه بالانقلاب حتى الحرب، ومن ثم التعديلات الأخيرة لتكريس سلطته والإفلات من عقاب جريمة فض الاعتصام والجرائم الأخرى التي يتحمل مسؤوليتها.
(3)
بهذه الترقيعات يؤكد البرهان مدى تخبطه في إدارة الدولة التي عجز عنها منذ انقلابه، لذا ليس مستغربًا أن يستند في ما أسماه بالتعديلات على مواد الوثيقة الدستورية نفسها دون أن يعي بأن الوثيقة الدستورية كي تظل فاعلة ويمكن تفعيل بنودها أن تكون الشروط التي أوجدتها قائمة لا تزال، حيث أن الوثيقة كانت نتاج عملية سياسية باتفاق بين قوى حازت شرعية الاتفاق الذي مثل إرادة الطرفين وقتها وأنتج واقعًا سياسيًا وقانونيًا مثل أرضية ومبادئ تأسيسية لسريان الوثيقة التي نصت على كيفية إجراء أي تعديل لنصوصها على ضوء الواقع السياسي الذي أنتجها وإرادة أطرافها بوجودهم ضمن المشهد الذي تحكمه الوثيقة التي أنتجت لترتيبه وتنظيمه، وهذا الواقع أصبح في حكم العدم بعد انقلابه عليه، الذي مثل في حد ذاته تقويضًا للنظام الدستوري ترتب عليه أن تصير الوثيقة نفسها في حكم العدم وكل ما ترتب عليها بما في ذلك مجلسه السيادي الذي يشرعن له ويمنحه الصلاحيات، لذلك فإن هذه التعديلات لن تغير واقع الوصف الحقيقي لسلطته باعتبارها انقلابًا على الوثيقة الدستورية، ولن تمنح البرهان الشرعية التي يبحث عنها سيما على المستوى الدولي والإقليمي بفك تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي الذي يتطلب اشتراطات لن تحققها محاولات البرهان البائسة في تعديل الدستور أو حتى قيامه بتشكيل حكومة من المدنيين طالما ظل الوصف بكون سلطته هي سلطة انقلابية.
(4)
وفقًا لتغيرات المشهد بعد الحرب يحاول البرهان في تخبطه الدائم البحث عن طوق نجاة من تخوفه الدائم من الإطاحة بسلطته، وتعد الخطوة التي قامت بها قوى سياسية وعسكرية لتشكيل حكومة موازية تنازعه السلطة هي أحد الأسباب التي دفعته لإعلان تلك التعديلات من أجل تعميق تكريسه للسلطة، ولم يفتأ الجنرال في مخاطبة ود حلفائه من الإسلاميين الذين يقاتلون معه ويطمحون في العودة للسلطة بإغرائهم بتمسكه بالمسار الذي ينتهجونه بمحاولة إدخال بعض البهار في التعديل الذي يحمل عبارات توحي بالطابع الديني لسلطته القادمة بعكس ما صرح به مؤخرًا من نبرات معادية للإسلاميين، لكنه يظل الحليف الدائم والخيار المواتي للاستعانة بهم في مواجهة القوى المعارضة له خاصة القوى المدنية التي كرست التعديلات لإبعادها نهائيًا عن المشهد الذي أنتجته التعديلات بسيطرة العسكر على الحكم والهيمنة الكاملة على السلطة.