قرار فوق السحاب في بلد تحت الأنقاض

أصدر وزير التعليم العالي قرارًا بإعادة الجامعات السودانية إلى الداخل، رغم استمرار الحرب وعدم استقرار الأوضاع الأمنية في معظم أنحاء البلاد. هذا القرار، الذي يُفترض أنه يهدف إلى استئناف العملية التعليمية، يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى واقعيته، وتأثيره على الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وإمكانية تطبيقه في ظل انهيار البنية التحتية والخدمات الأساسية، إذ أن وزارة التعليم العالي ليس لديها إحصائية بعدد الطلاب الجامعيين الذين سجلوا في قوائم اللجوء في دول الجوار، الذين بات ينطبق عليهم قانون اللاجئ، وكذلك لا تعلم عدد الطلاب النازحين إلى الولايات ذات الأمان النسبي، وكذلك لا تعلم عدد الطلاب الذين فاضت أرواحهم في هذه الحرب بفعل مباشر أو غير مباشر، ولعل من ترف القول أن نقول والوزارة لا تعلم كذلك عدد الطلاب المعتقلين لدي طرفي الحرب. لكأنما أراد وزير التعليم العالي أن يسهم في حملة التضليل ويستخدم الجامعات أداة لإثبات أن الأمور عادت إلى طبيعتها.

الوزير يعلم أنه ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تعرّضت مؤسسات التعليم العالي لضربة قاسية، أُغلقت الجامعات، وتعرض بعضها للتدمير الكامل أو الجزئي وتم احتلال مقراتها من قبل أطراف النزاع، فيما اضطر آلاف الطلاب والأساتذة إلى الفرار داخل السودان أو إلى الخارج، هجر من يملك أهله القدرة الجامعات السودانية والتحقوا بجامعات في دول أخرى، بدأت بعض الجامعات السودانية فتح فروع مؤقتة في دول مجاورة مثل مصر، كحلٍّ مؤقت يسمح للطلاب بمواصلة دراستهم، وبرسوم باهظة في كثير من الأحيان قبلت بها الأسر حتى لا يضار أبناءهم، لكن قرار إعادة الجامعات إلى الداخل الآن يبدو كأنه تجاهل للواقع المعقد ميدانيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

أحد أكبر التحديات التي تواجه هذا القرار هو الوضع الأمني المتدهور، الجامعات في الخرطوم، على سبيل المثال، تقع في مناطق نزاع مباشر، والكثير منها تعرّض لأضرار جسيمة. حتى في الولايات الأخرى، مثل الجزيرة وكردفان ودارفور، لا تزال الحرب تلقي بظلالها، مما يجعل توفير بيئة آمنة للتعليم أمرًا صعب التحقيق.

إلى جانب ذلك، تعاني البلاد من انهيار شبه كامل في الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء، والإنترنت، والمياه، وهي عناصر ضرورية لتشغيل أي مؤسسة أكاديمية. فكيف يمكن إعادة الجامعات إلى الداخل في ظل غياب هذه البنية التحتية؟

والقرار يضع آلاف الطلاب وأعضاء هيئة التدريس أمام معضلة صعبة، فمن جهة، قد يُجبر الطلاب على العودة إلى مناطق غير آمنة أو محرومة من أبسط مقومات الحياة، ومن جهة أخرى، فإن الأساتذة الذين غادروا البلاد أو لجأوا إلى أعمال أخرى قد لا يتمكنون من العودة، مما يؤدي إلى أزمة في الكادر التدريسي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن العودة العشوائية قد تؤدي إلى تمييز بين الطلاب الذين يستطيعون العودة والذين لا يستطيعون، مما يخلق فجوة تعليمية وظروفًا غير عادلة داخل الجامعات نفسها.

يبدو أن القرار يتجاوز كونه مسألة تعليمية بحتة، ليأخذ طابعًا سياسًا. فقد يكون محاولة لإظهار أن الحكومة ما زالت قادرة على فرض سيطرتها، حتى في ظل الفوضى. لكنه في الواقع، قد يعمّق الأزمات بدلًا عن حلّها، خاصة إذا لم تكن هناك خطة واضحة لتوفير الأمن والخدمات والبنية التحتية اللازمة لنجاحه.

إن استئناف التعليم العالي في السودان هدف نبيل، لكنه يجب أن يتم وفق رؤية واقعية تأخذ في الاعتبار الأوضاع الأمنية واللوجستية والإنسانية، أما فرض قرار العودة إلى الداخل دون ضمانات حقيقية، فقد يكون خطوة متسرعة تزيد من معاناة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وتضع مستقبل التعليم في البلاد على المحك.

Exit mobile version