مسرحية كاريكاتير

 

قراءة تمهيدية

السر السيد

 

مدخل:

 النص من تأليف الكاتب محمد الغزي، وحائز على جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال المسرح – الدورة 10، 2006 – (الثالث في مجال المسرح)، والنسخة التي نقدم قراءتنا حولها نشرتها دائرة الثقافة والإعلام حكومة الشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 2007.

يقع النص في عدد 39 صفحة من الحجم المتوسط ويتكون من ثلاثة مشاهد، ويحتوي على عدد ست شخصيات هي (وداد وحنظلة وفاطمة وزينب والزلمة وناجي).

ينهض النص ويتجه نحو تكامله ونموه عبر محاولته في أن يقدم حكاية أو فلنقل عالم رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، الذي اغتيل في لندن على يد شخص مجهول عام 1987م، أولًا عبر استناده على شخصيات أبدعها ناجي العلي في رسوماته هي (حنظلة وفاطمة وزينب والزلمة)، وثانيًا عبر استبطانه للكثير من المقولات والرؤى والأفكار التي نضحت بها كاريكاتيرات ناجي العلي التي عبرت بالأساس عن الوضع الفلسطيني بشكل خاص، والوضع العربي بشكل عامـ وما يكتنف هذين الوضعين من علاقات سياسية وثقافية ذات طابع محلي وقومي ودولي، وهنا ربما تكمن بلاغة عنوان المسرحية (كاريكاتير)، إذ أن النص إضافة لاستناده على كاريكاتيرات ناجي العلي وعوالمه نهض على أسلوبية زاوجت بين ضميري المتكلم والمخاطب عبر لغة غاية في الشاعرية والاختزال، حيث نلمس ونحن نقرأ النص كثافة في التعبير وثراء في الأخيلة مكنا المؤلف من أن يدير وبشكل خلاق وفي زمن وجيز هو زمن الحكاية، الذي هو ليلة واحدة، عشرات الأفكار والرؤى كما مكناه من إدارة مكان الحدث والأحداث المتفرعة (مكان واحد هو صالة في منزل وداد)، ومكناه كذلك من تفعيل شخصيات النص التي تعتبر كثيرة نوعًا ما في مثل نص بهذا القصر ويقوم على حدث رئيس واحد، فقد استطاع المؤلف بأسلوبيته البسيطة/المركبة كثيفة التعبير والأخيلة أن يدير حضور الشخصيات بشيء من التوازن الخلاق بحيث لا تطغى شخصية على أخرى محققًا وبجدارة ما يشبه الطريقة التي يقوم عليها فن الكاريكاتير الذي يمثل ما يمكن أن نسميه بلاغة الرسم أو بلاغة الخطوط والألوان خاصة عند ناجي العلي، وهذا ربما ما يجعل عنوان النص (كاريكاتير) مناسبًا ومعبرًا عن ما نطق به.

بناء النص وعلاقاته:

يقوم تحليلنا لهذا النص على فرضية أن النص المسرحي المكتوب على عكس غيره من النصوص الأدبية الأخرى عند قراءته يفرض على القارئ حضورًا ما لخشبة المسرح بمكوناتها المختلفة، أي أنه يفرض فضاء متخيلًا لحركة الممثلين ولطبيعة المكان الذي تدور فيه الأحداث… يفرض حضورًا متخيلًا لفضاء العرض، ومرد ذلك ربما للطبيعة الخاصة التي يبني بها النص المسرحي بحسبانه فضاء لتشابك الأحداث والأقوال والأفعال والشخصيات والأمكنة التي يبنيها النص وينهض عليها وفقًا لتقنية كتابة النص المسرحي.

 يبدأ النص وينتهي في بضع ساعات حيث يبدأ ليلًا وينتهي صباحًا، وهو الزمن الذي تستغرقه (وداد) زوجة ناجي والشخصية الرئيسة في النص في محاولتها كتابة رسالة إلى زوجها… يبدأ النص بالكتابة وينتهي بها وفي مكان واحد وبين الليل والصباح الذي هو زمن كتابة الرسالة، وفي الوقت نفسه زمن حكاية النص وفي الصالة (المكان)، حيث مكتب ناجي والكرسي الذي كان يجلس عليه والنافذة التي شهدت بعض طقوس حبهما. في الصالة المضاءة ليلًا لحظة شروع وداد في كتابة الرسالة وفي الصالة نفسها مطفأة الأنوار بعد أن فشلت وداد في كتابة الرسالة وأصابها الملل يتشكل الطقس (طقس النص) … الطقس الذي يحتشد من تقاطع العتمة مع النور… من محاولة زحف السواد على بياض الورقة… في تقاطعات خطوط وألوان ناجي العلي في رسوماته.. في تقاطع اللونين الأسود والأبيض… عبر هذه التقاطعات يشتعل الطقس فتخرج الشخصيات من رسوماتها (حنظلة/فاطمة/ زينب/ الزلمة)، ويحضر ناجي العلي ليتقاطع الغياب مع الحضور… الحقيقي مع المجازي ليبني النص نفسه عبر هذه التقاطعات – ولا أقول التقابلات يبني نفسه ليس فقط من خلال تشابك الأحداث والأقوال والأفعال والشخصيات والأمكنة والأزمنة، وإنما أيضًا من خلال الإرشادات المشهدية التي قدمها المؤلف التي شكلت في مجملها (نصًا يراقب ويشرف ويعلق على الحوار المنطوق فعلًا)، بل يمنحه في كثير من الأحيان أبعاده ودلالاته مما يجعل هذه الإرشادات والتوجيهات أحد أهم مفاتيح النصـ وهي بهذا ترقى إلى أن تشكل تقاطعًا مع النص الأساس، بل وتدعم مقولاته الكلية فعلى سبيل المثال يمكن النظر إلى إرشادات من نوع:

(تصرخ وداد)

من أنت؟

من أنت؟

(حتى يغمى عليها) ص 18 – نهاية المشهد الأول.

 أو من نوع:

 

(صارخة)

اخرج اخرج.. اخرج اخرج.. اخرج اخرج..

(حتى يغمى عليها) ص 38 نهاية المشهد الثاني.

 هنا أشير إلى أن الإرشادات ذات الطابع الصوتي من نوع (صارخة) أو (تصرخ بصوت عال) قد تكررت 14 مرة أما ما يقابلها من نوع:

(تهمس بحزن)

 أو (تصمت فترة)

 أو (صمت لبرهة)

 أو (بإيماءة)

 فقد تكررت 12 مرة والأمثلة كثيرة لنماذج أخرى.

أقول إن كل هذه التقاطعات التي يعتمل بها فضاء النص كتقاطعات اللون الأسود مع اللون الأبيض والعتمة مع النور والصراخ مع الهمس والصمت مع الكلام والصحو مع الغفوة والحضور مع الغياب والمرئي مع اللا مرئي والحقيقي مع المجازي، تأتى كلها مرتهنة لما يمكن تسميته بالبنية القولية للنص التي يتحدد من خلالها وضع الشخصيات من حيث الدخول والخروج ومن حيث الجلوس والوقوف والكيفية التي تتحدث بها، وتتحدد بها وضعية المكان ووضعية الزمن، بل يتحدد بها الموقع الجمالي والموقع الفكري للنص ورؤيته للعالم، فما النص المسرحي غير ذلك الكون من الأصوات الذي تخلقه علاقات الكلام في اشتغالها على أكثر من مستوى من مستويات تقنيات النص، فنحن نلمس في هذا النص تقاطعات بين الصوت الداخلي للشخصيات (المنولوج) والحوار، وتقاطعات بين الحوار والحوار في مستوياته المتعددة، وتقاطعات بين الصمت والكلام، ومن نماذج تقاطع الصوت الداخلي مع الحوار ما تقوله (وداد):

وداد: ………………………………

 ………………………………

 ……………………………….

أقف أمام غرفتي أرثي فراغي ويتمي، الطاولة تذكرني بك، هذه الوسادة، المصباح، رقاص الساعة، هذا الشباك يذكرني بشرودك، يذكرني بذراعيك كانتا تطوقاني وتبحثان في شعري عن ضوء يغير لون السماء! ثمة أحد يتحرك في زوايا الصالة. أريدك قربي، إنه أشبه بجنين يرفس في رحم، أريدك قربي.. أريدك لم تركتني؟ ص 11 و12ـــ المشهد الأول.

هذا الصوت الداخلي لوداد (المنولوج) يتقاطع مع الحوار الذي قبله الذي يبدأ بكلمة (من؟) التي تقولها وداد نفسها وهي أول كلمة تقال في النص.. يتقاطع مع الحوار لأن هذا الحوار برغم طبيعته السجالية التي تفرضها الإجابة على السؤال من؟ إلا أن الإجابة تأتي مبهمة وغامضة لا تشفي غليل السائل… تأتي وكأنها الصوت الداخلي للشخصية التي تجيب لذلك يكرر السائل السؤال حتى يغمي عليه ليبدأ صوته الداخلي.. هذا التداخل بين المونولوج والحوار بمستوياته المتعددة هو ما يشكل البنية الإيقاعية للنص التي يصنعها التكرار ويصنعها التقاطع بين الصراخ والهمس.. بين البطء والإسراع.. بين الصمت والكلام:

وداد: (بصوت عال) من؟

حنظلة: أ.. أنا!

وداد: من أنت؟

حنظلة: المرايا.

وداد: من أنت؟

حنظلة: ذكرياتكم.

وداد: من أنت؟

حنظلة: الفراغ… حين تصحو يدي..

وداد: من؟

حنظلة: (بصوت ونبرة سريعة) ظل انكساراتكم.. ذل خيالكم.. أنا الأرض التي تجلدها خطواتكم.

وداد: من أنت؟ (إلخ) ص 8و9ــ المشهد الأول

أما تقاطعات الحوار مع الحوار فتتمثل في تداخلات المستوى السجالي القائم على الأخذ والرد بين الشخصية والشخصية الأخرى كمثال:

الزلمة: لم تكن (أوسلو) سوى (حبة فاليوم) بلعته حياتنا الأولى وأخرجهم من المأزق، علينا ألا نعطي موتنا الثاني (فاليوما آخر)؛ لا نهادن، لا نطبع لا ننام.. ليس غير القتال من يوقظ الأمل؟

وداد: (صارخة) ليس بيتي منبرًا للخطابة أخرجوا.

الزلمة: لسنا منبريين.. نحن نحكي بلسانه.. ليس غير القتال من يوقظ الأمل.

وداد: قاتل هناك فقط اذهب عني.. يا أنت.. إنهم يهادنون (بحسرة) ــ ص 25 و26 المشهد الثاني

أما المستوى الآخر للحوار الذي يتخذ السجالية حيلة تعبر عبرها الشخصيات عما تريد قوله هي لا عما تفرضه المساجلة في أن تكون الإجابات على قدر مطلوبات الأسئلة ومثال ذلك:

فاطمة: كان يقول: عليك أن تعرفي أن حياتنا هي أسود وأبيض لا غير، الألوان الباقية لا نراها جيدًا.. حياتنا تناقضات خير وشر.

وداد: عمن تتكلمين؟ من أنت؟

فاطمة: كانوا يقولون لا صلح.. لا مفاوضات لا اعتراف، لا تخافي. لا تحزني.. سنعيد الأرض.. سنعيد الأرض.

وداد: من أنت؟

فاطمة: سنعيد الأرض.

وداد: من أنت؟

فاطمة: سنعيد الأرض.

وداد: من؟

فاطمة؟ الأرض.

وداد: من أنت؟

فاطمة: سنعيد الأرض. ص 14 ــ المشهد الأول

وهناك أيضًا المستوى الذي يشكل متوالية لحوار كل الشخصيات الموجودة في الحدث بحيث تشترك كلها في بناء الفكرة أو المقولة الواحدة كمثال:

وداد: إنها الحياة تعود ثانية، أسود وأبيض فقط!!؟ ماذا يقصدون؟

حنظلة: أسود وأبيض ومرار.

فاطمة: وفقدان.

زينب: أسود وأبيض وخيبة.

الزلمة: وشخير.

ناجي: أسود وأبيض وأسلاك شائكة وفنادق ولافتات وحجارة وصلبان ونفط، وليس ثمة شيء سوى الخطوط تتقاطع والشوارع تتقاطع والقرارات تتقاطع والتقاطع يتقاطع.

وداد: أعرف هذا الصوت..

أعرف هذا الصوت

 أعرفه

 أنه ذاكرتي التي لا تخون

 ………………………

 أسود وأبيض لا غير.. إنك أجمل من كل الألوان والأضواء.. أنت ألواني كلها وضوئي. ص26 و27 و28 ــ المشهد الثاني

خاتمة:

ختامًا أصل أو بالأحرى أحاول أن أصل إلى أن النص عبر تقنياته المختلفة بتقاطعاتها المتعددة استطاع أن يبني فضاءً مسرحيًا بنيته الظاهرة حضور ناجي العلي بعوالمه وشخوص رسوماته وبنيته العميقة، حضور الحرية بمعناها الأشمل وبشكل أخص (حرية التعبير)، حيث أن الحدث الرئيس في هذا النص هو الكتابة وذلك عندما حاولت وداد زوجة ناجي كتابة رسالة له وهو الحدث الذي تبدأ به المسرحية وتنتهي به وعندما تكون الكتابة إلى رسام وعن رسام هو ناجي تتبدى العلاقة بين الكتابة والرسم، ففي كليهما تحضر الخطوط وتتقاطع وتحضر الألوان وتتقاطع، وفي كليهما تكمن الرغبة في إعادة خلق العالم وفي زحزحة الساكن وفي تحريك المركون والمسكوت عنه، وفي كليهما تبدأ الرغبة في ترتيب خارطة الورقة وبالتالي الرغبة في إعادة ترتيب خارطة التاريخ، وعند كليهما يتقاطع المرئي مع اللا مرئي/الحقيقي مع المجازي/المتخيل مع الافتراضي/الأبيض مع الأسود / الخير مع الشر / الصحو مع الغفوة / الوعي مع اللا وعي… يتقاطع الصمت مع الكلام ليحضر الإيقاع لذلك كانت الكتابة في هذا النص هي التعويذة السحرية أو الشفرة التي أطلقت شخوص ناجي من رسوماته، وأطلقت ناجي من أسر ذاكرة زوجته ليحضر الي هذا الفضاء النصي البديع أو ليس هو القائل:

ناجي: أثق بخط القلم يختصر العاصفة.

 أثق بأشيائكـ حقيبتك عبادة الشمس، الكلينكس المعطر، قلم الشفة، الكحل السائل والورقة الفارغة…

 بكاتم الصوت… يختصر الحياة.

ليكون النص في الأخير أو يحاول أن يكون طقسًا يصنعه الكلام لاستعادة ناجى العلي… طقسًا للاحتفال بالتعبير رغم كل التقاطعات.. طقسًا للثقة بخط القلم يختصر العاصفة رغم أنف كاتم الصوت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى