معبر جودة.. حروب النخب وشبح الموت الذي لا يغيب

 

عوضا عن تبادل التجارة تحول إلى تبادل اللاجئين.. كيف أضحى الممر الشهير شاهداً على صراعات متكررة للشعوب المنهكة؟

وفقًا لتصريحات من مسؤولين سودانيين تم تسيير 3  رحلات من النساء والأطفال والشباب وكبار السن عددهم

آلاف من اللاجئين الجنوبيين في رحلة العودة

 

الزين عثمان

في معبر “جودة” الرابط بين دولتي السودان يسبق الناس سؤالهم “إلى متى”؟ سنظل ندفع فاتورة حروب لا تنته؟

على اللستك الموضوع في قلب شارع الأسفلت الرابط بين مدينتي ربك في ولاية النيل الأبيض بالسودان ومدينة الرنك في ولاية أعالي النيل بجنوب السودان، يمكنك أن تكتب العبارة: نخبة السودان والتمادي في صناعة الحروب. 

هنا جودة المدينة التي شهدت أحداث “العنبر” الشهير حيث مات الناس اختناقًا خمسينات القرن المنصرم، هنا ينتصب المكان شاهدًا على أن سودانيي الجنوب والشمال هم من يدفعون فاتورة الحرب التي تشعلها النخب الراغبة في حكمهم ولو على أشلائهم.

ما يزيد عن عشرة أعوام للوراء المكان ذاته يقف الجنود على الحدود شاهرين بنادقهم شمال “اللستك” ومعها العبارة للهاربين من جحيم حرب سلفا مشار “عودوا من حيث أتيتم”. يومها اشتعلت أول حروب الدولة الوليدة بين الرئيس سلفاكير ونائبه مشار بعد ثلاث أعوام من قيام الدولة، ولم تسمح سلطات ولاية النيل الأبيض للجنوبيين بالعبور شمالًا إلى حيث المدن السودانية التي غادرها بعضهم لتوه يغازله حلم وطن الحرية السلام والعدالة، وانتهى الأمر بإقامة معسكرات لجوء في الجزء الجنوبي من ولاية النيل الأبيض لا تزال في أماكنها حتى الآن تخبر الناس عن مآسي وتداعيات الحروب. 

 عامان للوراء المكان نفسه الحرب المشتعلة بين جنرالات الجنوب تأخذ موقعها بين الجنرالات شمالًا “البرهان وحمدان” نسخة جديدة لصناعة الموت تدفع بسوداني الشمال في رحلة الهروب جنوبًا بحثًا عن الأمان، الطريق يبدو سالكاً إلى جوبا ومنها إلى أوغندا وكينيا ودول أخرى. في كل الحالات ظل معبر جودة المنطقة الأكثر بلاغة في سرد معاناة السودانيين مع الحروب، المعبر الذي كان منتظرًا أن يكون نقطة لتبادل المصالح صار نقطة لتبادل اللاجئين ونفقًا ينتظر أن يجدوا عند نهاية ضوئه السلام. في فترة تمدد قوات الدعم السريع في الوسط مثل معبر جودة شريانًا وفر للسكان بعض المواد الغذائية وطريق غادر به الكثيرون. 

الأسبوع الفائت تصل عدد من السيارات وعلى متنها مواطنون جنوب سودانيون للمعبر في رحلة العودة إلى بلادهم تنفيذًا لقرار صادر من حكومة ولاية الجزيرة التي استعادها الجيش مؤخرًا من قوات الدعم السريع، الشاحنات التي حملت المئات اكتمل بهم تسيير 3 رحلات بما يقارب 3 آلاف من اللاجئين الجنوبيين من النساء والأطفال والشباب وكبار السن ينفذون رحلة للعودة الطوعية وفقًا لتصريحات من مسؤولين سودانيين.

لكن رحلة العودة الطوعية نفسها جاءت في أعقاب حالة تصعيد سوداني جنوب سوداني بسبب اتهام الخرطوم لجنوب سودانيين بالمشاركة في الحرب كمرتزقة لصالح قوات الدعم السريع، مقرونًا ذلك بأحداث مقتل مواطنين جنوب سودانيين في كمبو طيبة بولاية الجزيرة بواسطة الجيش السوداني ومليشيات محسوبة عليه ما أفرز تصعيدًا دفع فاتورته سودانيون مقيمين بالجنوب قبل أن تنجح حكومة الجنوب في تهدئة الأوضاع. لكن الأمر بدا وكأنه هدوء ما قبل العاصفة.

عاصفة الحرب تنتقل جنوبًا، عودة المواجهات بين قوات جيش جنوب السودان وقوات الجيش الأبيض المرتبطة بنائب الرئيس رياك مشار، ما دفع بالرئيس سلفاكير ميارديت لمخاطبة العالم بقوله “لن نعود للحرب مرة أخرى”. يأتي خطاب سلفا محاولًا تلطيف أجواء المواجهات في منطقة الناصر بعد مقتل لواء في الجيش الحكومي، وهو المسار ذاته الذي مضت فيه تصريحات مشار.

بعد هدوء عاصفة الناصر كانت رياح الإشاعات الشمالية تندفع بإعلانها انقلابا في دولة جنوب السودان بما يعزز من فرضية عدم الاستقرار في الجنوب، وهو ما نفته وزارة الخارجية هناك واعتبره نشطاء بأنه تعبير عما أسموها أحلام البلابسة في دولة السودان.

حسنًا ثمة من يربط بين معركة سلفا ومشار في الجنوب بمعركة البرهان وحميدتي في الشمال، مع محاولة ربط كل ذلك بمعادلات إعادة ترسيم المنطقة بما يخدم مصالح التحالفات الإقليمية.

لكن وفي كل الأحوال فإن شعب السودان في الدولتين هو من سيدفع فاتورة الحرب الجديدة مثلما فعل مع القديمة، بينما يتمدد السؤال هل سيعود الجنوب سودانيون إلى ذات النقطة مرة أخرى هروبًا من الموت؟

وهو السؤال الذي يتخذ شكلاً آخر هل يحتمل المعبر “عابرين” جددًا؟ بدا وكأن السؤال المرسوم على خط الحدود بلا إجابة حاسمة في الوقت الراهن. التصريحات الرسمية القادمة من القيادات في دولة الجنوب حتى الآن تؤكد على أنه لا حرب تستدعي الناس لمغادرة ديارهم بحثًا عن السلام في السودان. المفارقة الأخرى بدأت فإن السودان نفسه لا يملك ما يمكن أن يمنحه في حال اشتعلت الحرب جنوبًا، فحرب الجنرالات شمالًا سلبت من البلاد سلامها ودفعت بأهلها للمغادرة بحثًا عن الأمان، كما أن المنطقة المحيطة بالمعبر شغلها هاربون من الموت آخرون. الموت الذي وزعته البنادق بالتساوي على الناس في الخرطوم وفي الجزيرة وفي كردفان وفي سنار وفي النيل الأبيض نفسه.

وبعد تحول المناطق المحيطة بالمعبر إلى ميدان حرب تصبح الحقيقة أن المشرحة لا تحتمل موتى جددًا وأنه بدلًا من أن يبحث السودانيون شمالًا وجنوبًا عن معبر للقفز فوق رصاصات الموت على النخبة البحث عن جسر يقرب الشقة بين مكوناتها بعيدًا عن الحرب. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى