(مرتجلة) المخرج /أديب أحمد والكاتب/ محمد علي مخاوي: تجربة في (منهج التغريب) في الدراما الإذاعية
كتب د. شمس الدين يونس
قدمت الإذاعة السودانية خلال السنوات الماضية ومنذ الساعة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة عصرًا المسلسل الإذاعي (ذاكرة لا ينقصها الشك)، الذي خطط له الكاتب محمد علي مخاوي وأخرجه المخرج أديب أحمد، وقام بأداء الأدوار: محمد عبد الرحيم قرني، آمنه أمين، غدير ميرغني، محمد المجتبى موسى، سوهندة أبو بكر، نصر الدين عبد الله، سميرة مسعود، طارق علي، هبة حسن صالح، هند زمراوي، عبد العظيم أحمد عبد القادر، وعوضية مكي.
سعى المسلسل ومنذ الوهلة الأولى إلى إثارة الدهشة من خلال ما أسموه بـ(ارتجالية)، وأحاول في هذا الاستماع أن أحدد الروابط الجمالية بين نظرية برشت في التغريب ورصيفتها عند وغستو بوال وبين هذه الارتجالية.
ربما كان للثنائي أديب ومخاوي من تعمق في فهمهم لجماليات التغريب، فقد عمدا إلى نقله من حقل المسرح الذي نشأ وترعرع فيه إلى حقل آخر هو الدراما الإذاعية، وأنني أدرك الأهمية المحورية لهذا المسلسل الإذاعي التأسيسي لمنهج جديد في إخراج الدراما الإذاعية السودانية، وهذا هو ما حفزني للكتابة محاولة مني لتوضيح ما حاول أن يفعله المسلسل من خلخلة للمسافة بين المستمع والعمل الدرامي الإذاعي، وقلب القيم الدرامية الإذاعية السائده في دراما راديو هنا أمدرمان منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، إذ ظلت تتخذ نمطًا إخراجيًا واحدًا أصبح سمة مميزة لها إلى أن جاء هذا المسلسل الذي حاول أن يجسد الصراع الجدلي بين السردي والدرامي بطريقة إجرائية على المستويين الشكلي والتيماتي من خلال الفصل الحاصل بين الممثل/ الشخصية والواقع/الإيهام .
وإذا كان إخراج أديب لمخطط محمد علي مخاوي قد أفضى به إلى عملية تجريب بعض تقنيات التغريب في حدود علاقة الممثل بالمستمع، فإن ذلك يبين اجتهادات أديب الإخراجية في تشكيل ما يمكن أن أسميه ملامح نظرية تغريبية في إخراج الدراما الإذاعية .
في هذا العمل نجد أن المخرج أديب أحمد يبدو مشدودًا نحو دينامية عناصر متنوعة في بنية المكونات الجمالية الأساسية للمسمع الدرامي الإذاعي، فنجده يحاول وفي كامل سياق العمل يعلن قطيعته مع نسق التمثيل الاستانسلافسكي (التقمص) الذي ظل مسيطرًا على الدراما الإذاعية لدرجة (الرؤية عبر الأذن) عند المخرج صلاح الفاضل، التي تحاول إدماج المستمع مع العمل.
هذا يدعونا إلى إعادة تنظيم آليات الإنتاج الدرامي الإذاعي مع المبدعين أديب أحمد ومحمد علي مخاوي، وهما يستخدمان مصطلحين جديدين على حقل الدراما الإذاعية في هنا أمدرمان هما (ارتجالية) و(تجريب) في محاولة منهما عرض استمرارية الحياة أكثر من محاكاتها، لذلك نجد أديب في إخراجه للعمل يختار الفواصل الغنائية أو الموسيقية المسموعة لفنانين وموسيقيين معروفين مثل: أغنية الذكرى للحبان لعثمان الشفيع.. أو رائعة عتيق أذكري أيام صفانا.. أو سيد خليفة في أنت حبيبي وغالي علي. وهي كلها أعمال معروفة بل ومحفوظة عند المستمع، ويتبعها بصوت الممثلة سوهندة أبو بكر وهي تمثل تقنية مقدم البرامج، أو الجوكر عند أوغستو بوال موجهة حديثها للمستمعين: الفنان الغنى لينا دا الفنان وليد يوسف إن شاء الله تكونوا استمتعتوا معانا .
يعمد المخرج أديب هنا إلى تقديم، فيما يبدو، دلالة المسمع التالي أو السابق، كما يوظف أيضًا حديث الممثلين عن أدوارهم في المسلسل أو تقديم المسمع القادم: مثل أن تقول سوهنده للممثل عبد العظيم أنت بتلعب كم دور في المسلسل دا ويرد لها: إيييك ما تعدي.. ولكن كل ذلك في إطار بعيد عن اندماج المستمع مع المسمع. ومن ثم يقود أحداث المسلسل بتقنيات التغريب في مستوياته المختلفة عند برشت أو بوال وهي تقنيات جديدة على الدراما الإذاعية السودانية بغية الإطاحة بمنهج الإيهام الذي ظل سائدًا، وتتمثل أوجه الاتفاق والاختلاف بين أديب وبرشت، هنا في أن برشت ركز على الجستوس الذي يقوم على الطبيعة الجدلية التي تؤكد على جستوس الجسد، الذي يتجاوز المعنى الضيق للإشارة أو الإيماءة إلى ما يعني أن اداء الممثل يجب أن يأخذ على عاتقة مهمة إظهار الموقف الاجتماعي لهذا الممثل عاكسًا وجهة نظره من الحياة، وحول أديب الجستوس إلى الأداء الصوتي في الأداء وهو ما يعرف (بالتنغيم) التنويع الصوتي و(التركيز) أي الضغط على الكلمة لإبراز معنى من المعاني ليتخذ الأداء بعدًا اجتماعيًا يوضح موقف الشخصية الاجتماعي، هذا من جانب ومن جانب آخر يستخدم أديب تقنية التقطيع السينمائي المونتاج إلى المسامع الدرامية، نجده ينتقل من مسمع إلى آخر داخل المسامع الموصولة فيما بينها بغية خلق تأثيرات معينة لإثارة الوعي مع أو ضد الشخصية في موقفها، بالانتقال بمقطع شعري أو غنائي أو حتى بأحد الممثلين. يعلن عن المسمع التالي هنا نجد المخرج أديب وظف هذه التقنية بكل تأثيراتها التجميدية والتركيبية، مما يضفي انتقالات سلسلة بين المسامع، هنا يحاول أديب أن يخلق علاقة جديدة بين المستمع والعمل الدرامي الإذاعي، من خلال إفساحه المجال للممثلة سوهندة التي تقوم بدور (مقدمة)، وهو هنا يعارض أسلوب استانسلافسكي الذي يلزم الممثل بأن يندمج في الشخصية، بأن جعل من شخصياته أن تتذكر دائمًا أنها واحدًا من الجمهور، وهذا ما تقوم به سوهندة دائمًا بتذكير المستمعين بأن ما يحدث هو نوع من الارتجال الخلاق. وأن الأمر ما هو إلا مساءلة للتناقضات العميقة في العلاقات الاجتماعية.
ولا شك أن مراد أديب في إنتاج الغرابة لا يتحدد فقط في تجديد إحساس الذات المتلقية للموضوع الممثل وإنما يتجاوز القيمة المعرفية بغية إدراك إرادة عميقة لبناء ما تم تفكيكه انطلاقًا من وجهة نظر ناقدة، محاولًا بذلك تسيس ما هو جمالي، معبرًا بالصوت والمؤثر والغناء والحوارات بين الممثلين عن الجانب المحاكاتي للعلاقات الاجتماعية المفترضة بين الشخصيات في فترة زمنية معطاة. وهنا نجد أن أديب يقدم سلسلة من الفواصل الاجتماعية والسياسية التي تذكرنا دائمًا بأن التمثيل ليس فعلًا معطى، وإن هو صيرورة إنتاج، من هناك يمكن النظر إلى (تجربة أديب أحمد ومحمد علي مخاوي) في الارتجال الإذاعي كما أسمياها بصفتها تعاقب أساليب إخراجية وأسس جمالية مختلفة وفق كيفية جدلية معززة بتعدد اهتمامات المخرج أديب أحمد والكاتب محمد علي مخاوي ونزوعهما نحو إعلان القطيعة مع القيم الجمالية السائده في إخراج الدراما الإذاعية في هنا أمدرمان. محاولين تفكيك الوهم بتخلخل النظام الرمزي للوجود الإنساني وبتقديم المسامع الإخراجية رغبات المستمعين بواسطة مزجها برؤية الممثلين أمام المايك، وتكون النتيجة تكسير التماهي، فنجد الممثل غدير ميرغني فجأة يجري حوارًا إذاعيًا مع المغني الفنان وليد يوسف، وهنا يتأكد الأثر النفسي الذي يكمن في التغريب وفي خلخلة العلاقة الانعكاسية الخيالية للمستمع بصورته الخاصة ووضع حد للشعور بالارتياح. وهذا ما سعى إليه الممثل إلى وضع الإنسان ليس بوصفه ذاتًا مستقلة وإنما من حيث هو ممثل للفعل الاجتماعي، ويتم كل ذلك من خلال الفصل القابل للمساءلة بين الشخصيات والنص والمستمعين، حيث نجد الممثلين والوعي بالحضور والأغاني والمقطوعات الموسيقية والحوارات التي تقطع مسلسل التماهي، وكمثال علي ذلك حوار غدير ميرغني مع المغني وليد يوسف حول تجربته كمغني في هذا العمل، متطرقًا إلى انطباعة حول أداء الممثلين والعمل الدرامي وما يلاقيه الفريق العامل من رهق. مثل هذه التقليعات الإبداعية التي لجأ إليها المخرج أديب أحمد يتم استعمالها من حيث هي أساس خلفيات الفعل الأخلاقي للعمل الدرامي الإذاعي بحيث ما يبقى من أثر في ذهن المستمع للمسلسل ليس الحكاية، وإنما سلسلة من اللحظات المتجذرة بكيفية ما خطط له الكاتب محمد علي مخاوي، ويصبح لزامًا على المستمع أن يعيد بناء المعنى وإعادة كتابة مخطط محمد علي مخاوي المتسم بالانفتاحية انطلاقيًا من موقعه كمستمع .
وفي خلاصة القول هي تجربة في الارتجال الإذعي خطط لها محمد علي مخاوي وأخرجها أديب أحمد وحاول قراءتها، شمس الدين يونس نجم الدين وهي ما زالت في طور التخلق بعد .