العيد.. في بلاد العجائب!

 

رقية وراق

طفقت أجد في أثر العيد هذا العام بعد أن فاتني يومه الأول لتوعك صحي. كنت تحوطت لأمر مهاتفة السودان منذ الوقفة تجنبًا لمشكلة انشغال الخطوط يوم العيد، ولكني أعدت محاولة الاتصال مرات وكرات في صبيحة العيد دون جدوى، فأضفت لنفسي إحباطًا على زكام. لبس الصغار ملابس العيد ورافقوني لزيارات خاطفة للجيران المعيدين والمعيدات وغالبيتهم من السودانيين، وبعد عودتنا واصلت المعايدات الهاتفية والإلكترونية وهتفت بالأطفال ليشتركوا في بعضها بمحادثة الأصدقاء والصديقات رغبة في استمرار مناخ عيدوي بالمنزل فأطاعوني مرة مرتين ثم تملصوا مني بالاعتذار وإغلاق أبواب الغرف بلطف. أعرف أن أنفاس الصعداء تتعالى خلفه، فيما يتصاعد شوقي لمناخ عيد حقيقي في السودان ولا ينطفئ، التقانة وحدها لا تروي. جبت أرجاء المسكن الصغير دون هدف، لا أريد العيد مجزءًا في خطوط التليفونات وأزرار الحواسب، أريده قطعة واحدة، مثل الكعكة البلدية، بطعم وملمس ونكهة. كنت أريد أن أتذكر، وكانت الذاكرة تعاندني، والصور تتفلت حالما أضع يدي عليها. فجأة لانت قلاع الذاكرة وانفتحت، وعلى هدي شاراتها أبصرت غرفة مريحة ينام فيها الزمان والمكان تنتظر التفاتتي، وهي تعبق بالتيمان والصندل والند ودوا الكعك والصلوات والضراعات، الزمان يوم الوقفة والمكان منزلنا بالوطن، سمعت وقع خطى أمي وشقيقاتي وبنات أختي وشعرت بحركتهن الدائبة في أرجاء المسكن الكبير، وأبصرت وجوههن المتعبة المستبشرة، وأصابعهن المعيدة، تلمس كل ركن، فتغسل وتكنس وتلمع كل ما يغسل ويكنس ويلمع في البيت وكأني بالعيد يتابع عناءهن المحتفل فلا ينبثق الا بعد أن تكتمل ذات الطقوس. رأيت صواني الكعك والبسكويت، وشعرت بلسعة الشاي مع نصف البسكويتة المستطيلة المخططة المغموسة فيه، يحرق نصفها اللسان ويسقط نصفهاالآخر في قاع الكوب، ليغلظ قوام جرعة الشاي الأخيرة ويطيب. رأيت بقايا السكر المطحون الناعم على الملابس بعد قضم الكعكة بين صفي الأسنان الأمامية ورأيت شرائط العيد الملونة على الضفائر الملمعة بالدهان المنزلي. شقيقاي ومعهما ابن أختي مشغولان بأمر الملابس، حذاء بخطأ في المقاس يتطلب إرجاعًا، ليه ما قستوا الحاجات دي من بدري يا أخوانا، حضر عمي وحضر خالي وسيأتيان في الغد صحبة شقيقي وابن أختي بعد صلاة العيد ووصل الرحم القريب والجيران.

كنت في يوم الوقفة أحدد لنفسي مهمة بعينها وأنجزها بإتقان يمنحني شرعية اختلاس وقت لمطالعة الكنوز التي تخرج بها للسطح حملات التنظيف الجبارة، وكلما استشعرت في الأفق احتجاجًا استبقته بالتذكير بالمهمة التي أنجزتها. ولكن من قال إن عمل ذاك اليوم يعرف المهام المحددة؟ كنت أقول إن الأعمال تخترع اختراعًا في البيت حتى لو انتهت، وكنت أدلل على ذلك بالأحوال التي يكون فيها وقفتان لو لم تثبت رؤية الهلال، إذ لا تقل الوقفة الزائفة عملًا وتعبًا عن الحقيقية. لو كان هناك أطفال، كنت آتي جريًا إلى مكان أمي عندما أسمعها تقول، بلهجتها التي لم تجفف الخرطوم قطرة من رحيقها:

_ ووب علي رقيي!

الووب لا يعني إلا أنني قد ضربت في مقتل. الووب يعني أن صفحة من كتاب أو مجلة قد مزقت أو انتزعت من مكانها، أو أن طعامًا أو شرابًا قد دلق عليها. آتي ركضًا، ولم أك كثيرة البكاء، ولكني كنت أنتحب، بالأيام على كتبي لو أصابها مكروه. كنت أعيش مع كل كتاب حياة خاصة منفصلة. ما رأيت كتاب “الجريمة والعقاب”، إلا وتذوقت طعم الفول السوداني والعسل في لساني. فقد أكملته وأنا أفوت الوجبات البيتية تباعًا، وأستعيض عنها بالسندوتش العجول. كنت أظن أن هذا التوليف العجيب بين الخبز والفول والعسل من اختراعي، رغبة في اختصار الوجبات وتوفير الوقت لوجبة المطالعة الشهية. بعد سنوات وسفرات، عرفت أنه سندوتش محبوب جدًا كوجبة إفطار أو وجبة خفيفة عند الفرنجة، مع تبديل العسل إلى مربى الفواكه أحيانًا، ولكن الفول السوداني هو الأصل، شوف بالله!

خبز دافئ أو حار، (أحمراني) اللون، أرافق شقيقي أحيانًا لإحضاره من (طابونة) الشعبية، بحري. رغيفة مستديرة، أو مستطيلة، بحواف تترك آثار رقاقها البني على ملابسي وأنا ألتهم الكتاب معها، مائدة عظيمة للجسم والروح.

في ركن أضاءته شمس ظهيرة لونتها ملابس العيد وأوراق الحلوى اللامعة المتناثرة، رأيت مقعدي الذي صنعته لنفسي من أربع قطع من طوب أحمر، جلست فوقه، يوم عيد، في سوق الشعبية، قرب بائع يبيع مشروبًا أحمر اللون، لعله الكركدي أو الفراولة، من قدر ألمونيوم كبيرة ولامعة، من النوع الذي يحفظ فوق أسطح (فضيات) المطابخ، ولا يستخدم إلا في المناسبات المنزلية الكبيرة. وكانت هناك ابنة البائع، في مثل سني، تساعده في البيع. كنت أصطحب شقيقتي التوأم فنزور عمي وأسرته بالشعبية، ثم ينطلق جمعنا الصغير نحو الأراجيح التي كانت تحتل مساحة كبيرة قرب السوق. كانت الابنة مستقرة في مكان واحد بحكم مشاركتها أبيها في مهمته، عكس حركة بقية الأطفال، وكان يستقر فوق مائدة بيعهما كتاب في حجم (الألغاز) الذائعة الصيت في أيام طفولتنا. طلبت من الصديقة الجديدة أن أرى الكتاب، الملون الصفحات، المغلق الغلافين على جوعي لالتهامه، صفحة صفحة، وكلمة كلمة. وافقت بأريحية، وخلال دقائق كان مقعدي جاهزًا. اكتفيت من مهمة مراقبة الجمع الأسري الذي كنت أكبر من فيه، بسماع الأصوات من بعيد، أسمع ضحك التومات وصياحهن وهن يطرن عاليًا في أرجوحة بمقعدين، يستلم صاحبها ثمن التأرجح، ويدفع سلاسلها الحديدية بيديه، ويعلن عنها، كل هذا في وقت واحد. كانت صيغة الإعلان المرحة تتصاعد تدريجيًا: الجو.. الجااو.. الجاااااووووو!

كانت العيدية غير المتوقعة التي نفحتني إياها ابنة بائع العصير هي كتاب (أليس في بلاد العجائب). ناس تصغر وتكبر في لمح البصر، بحيرة الدموع التي عرفت، بعد سنوات طويلة، أن الإنسان يمكن أن يسبح فيها فعلًا ويعبر إلى شواطئ أخرى. أوراق الكتشينة تتحول إلى شخصيات حية، جنود يحرسون شيئًا بالسيوف، الأرنب المتوتر يكثر من إلقاء النظرات على ساعة (يده) وآخر أهميات، يذكرني بأحد المعارف، كان يرد على دعوة تناول الشاي بعبارة: ما بقدر، أنا في حالة سباق مع الزمن! وكانت (قندفته) المكرورة تغيظني حينها، ولكن الأرنب لا يغيظني، فسباقه مع الزمن كان يشبه سباقي لأستكمل مطالعة الكتاب المستعار، وأحداثه تتابع حيوية، مشوقة وكذا ضجة العيد في الساحة الخفاقة .

هادم ملذات، لا أتذكر إن كان شخصًا أو حدثًا، دفع بالطفلة لاستعادة كتابها مني قبل وصولي نهاية القصة، أي حزن وأي خيبة أمل.

لو قرأت كل النسخ، العربية والإنجليزية، لو اعتصرت كتبها، بأحجامها الصغيرة تلك، بين يدي، حتى سالت حروفها ماء، ما روى ذلك ظمأي. أريد تلك النسخة، وأنا أجلس فوق مقعد الطوب القاسي، قرب بائع العصير الأحمر وابنته، أريد تلك الظهيرة الملونة في ميدان الشعبية بحري، الكبير الضاج، أريد العيد الذي صارت أليس وعجائبها خلفية مجنونة الخيال له، هكذا هتفت بالذاكرة، ملء الشوق والحنين، فهيأت لي غرفة، بسطت ملاءاتها الملونة فوق أسرة الأشجان، وعطرت نسائمها برائحة الأهل والأحباب. غرفة أدفأتها تلك الظهيرة العيدية، بسوق الشعبية، وأدخرتها الأعماق على مدى الأعوام، لصباح عيد في مهجر بعيد، وسداد ثغر!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى