الآثار النفسية للحرب:

الجانب المنسي في حرب السودان وارتباطه بالعدالة الجنائية

سمير شيخ إدريس

(1)

يتركز الاهتمام الكامل في الآثار التي خلفتها حرب أبريل في السودان على الأثر الاقتصادي وتدني مستويات العيش، بسبب ما أدت إليه الحرب من نزوح وفقدان مصادر الرزق للملايين من السودانيين، الأمر الذي أوصل الأسر لحالة من شظف العيش ومكابدة الظروف الحياتية لتوفير الضرورات اليومية لعيش أفرادها على المستوى المعيشي والصحي، بينما غابت متطلبات أساسية أخرى كالتعليم والرفاه الاجتماعي، وصارت كماليات في ظل المكابدة لتوفير الحد الأدنى للحياة، وفي ظل هذا التركيز على المنحى الاقتصادي الذي دمرته الحرب يتم تناسي شكل آخر من الدمار الذي أفضت إليه على الرغم من أهميته البالغة، وهو المتعلق بالتأثير النفسي للحرب في نفوس الملايين من النازحين واللاجئين، وما لذلك من آثار سوف تمتد على المدى البعيد حتى إذا انتهت الحرب، وسيكون له تأثير مباشر في سرعة عودة الحياة وإعادة بناء البلاد والإنسان في مرحلة ما بعد الحرب وتأسيس السلام والاستقرار، هذا الأثر الذي يتم تجاهله من قبل الجهات السياسية والمنظومات التي تدعي اهتمامًا بقضية المواطن وحتى على مستوى أرباب الأسر الذين ينصرف جل جهدهم لمحو الأثر الاقتصادي المتخلف عن الحرب بتوفير لقمة العيش دون الانتباه للآثار النفسية التي أثرت على ذويهم وعليهم شخصيًا، ويتنامى تعاظمها بالشكل الذي أدى دون وعي منهم إلى العديد من الاضطرابات التي واجهت أفراد الأسر وستؤدي مستقبلًا إلى العديد من المخاطر التي ستهدد استقرار الأسر والأفراد وقد تؤدي إلى حالات خطيرة من الانزلاق نحو التفكك وتلاشي تلك الأسر، حيث عانت تلك الأسر والأفراد من الفارين من جحيم الحرب، والنازحون داخليًا وخارجيًا ومن بقي في مناطق الصراع أزمات نفسية حادة نتيجة الصدمة الناتجة عن معايشة الأحداث العنيفة من القتل ومشاهدة الجثث والقصف والنهب والتعذيب والاغتصاب وظروف النزوح القسري وفقدان الأهل والأقارب وفقدان الوظيفة والتعليم وغيرها، ما أدى إلى ظهور العديد من الاضطرابات النفسية لما بعد الصدمة كالهلع والخوف من المجهول  والاكتئاب وفقدان الرغبة في الحياة  نتيجة اختزان العديد من المشاهد العنيفة وترسخها في الذاكرة لمدى بعيد، وهو أمر معلوم لجهات الاهتمام على المستوى المحلي من فرق الدعم الطبية المحلية والمستوى الدولي كمفوضيات اللاجئين ومنظمة الصحة العالمية التي تحرص على الوقوف على آثاره ومحاولة معالجتها بتقديم الدعم اللازم للضحايا، وهو الأمر الذي لم يتوفر للناجين من حرب السودان لوجود مصاعب وتعقيدات متعددة حالت دون تحققه وبالتالي ظل وجوده قائمًا وينذر بالعديد من المخاطر على المدى البعيد كأقسى الآثار التي يمكن أن تخلفها الحرب.

(2)

مع بداية الحرب نشطت مجموعات الدعم الطبية السودانية التي تهتم بالصحة النفسية والعقلية لتقديم العون النفسي لضحايا الحرب، وذلك في بعض مناطق الصراع والمدن التي نزح إليها المواطنون أو وسط اللاجئين في دول الجوار للمساعدة في معالجة آثار الصدمة وتفادي الوقوع في حالات الاكتئاب الحاد، وفقدان الرغبة في الحياة، غير أن هذه الجهود لم تثمر بالقدر المطلوب بسبب قلة الامكانات والكادر المتخصص بسبب النزوح المتزايد عن العاصمة التي يتركز فيها غالبية مراكز خدمات النشاط الصحي خاصة المتعلق بالصحة النفسية الذي خرج عن الخدمة بسبب الحرب الذي كان يمكنه المساهمة في تفعيل الادوار العلاجية، كما أن تعنت طرفي النزاع وضعف الوازع الأخلاقي لكليهما حال دون ذلك بسبب قفل الممرات الانسانية والاستيلاء على ومضايقة الطواقم الطبية في عبورها بين المدن، ورغمًا عن كل ذلك رصدت تلك الجهات الطبية النفسية حالات متعددة من الخلل والاضطراب النفسي وسط المواطنين بسبب الحرب بين الأطفال والبالغين من النساء والرجال، وذكرت تلك التقارير تفاوت مستويات وقوة الصدمة النفسية للحرب وما نتج عنها من ضرر للأفراد حسب طبيعة الانتهاكات وصور العنف والمشاهد التي تعرضوا لها التي تفاوتت بين قتل عائل الأسرة أو أحد أو أكثر من أفرادها والحياة تحت القصف الجوي ودوي المدافع والرصاص، والإصابات البليغة الناجمة عنها التي أدت لبتر أعضاء حيوية لكثير من المواطنين تحولوا لمعاقين وتعاني أسر كثيرة نفسيًا من جراء فقد أفراد منها أوان النزوح ولا تعلم مصيرهم إن كانوا أحياءً أو في عداد الأموات،  وتضيف تقارير الخبراء النفسيين من واقع الضحايا أنه لم تخل هذه الآثار حتى عن السودانيين الذين تركوا دائرة الصراع  بالبلاد ونزحوا خارجًا لدول أخرى حيث لاحقتهم الضغوط وفقدان التوازن النفسي كالخوف من المجهول بسبب عجزهم عن إعالة أسرهم لفقدان مصادر العيش واعتمادهم على المعونات الخارجية غير المستقرة والتوتر النفسي جراء اغتراب الحال واختلاف ثقافة المجتمعات التي لجأوا اليها وأنماط الحياة غير المألوفة بالنسبة لهم، وهذه المخاوف والضغوط القاسية يمكن أن تحدث آثارًا كبيرة قد تصل لحد الوفاة في بعض الحالات التي تم رصدها من قبلهم، وهذه الآثار اذا لم يتم الانتباه إليها ومعالجتها سريعًا ستقود لأزمة تعيق استعادة الحياة الطبيعية للمواطنين مستقبلًا ونشوء مجتمع معافى وتنسف أي أمل في الاستقرار والإعمار ما بعد الحرب.

(3)

اهتمت المنظومات العالمية بضحايا الحروب الذين يعيشون في مناطق النزاع بسبب ما يتعرضون له من مخاطر الوقوع في الاضطرابات النفسية، وحددت من خلال الواقع ودراسات المنظومات الصحية العالمية نسبة تنامي الخلل النفسي والعقلي لضحايا الحروب الذي قد يصل حد الانسحاب والميول الانتحارية ما يهدد سلامة واستقرار المجتمعات التي تعاني من النزاعات المسلحة والحروب مستقبلًا، وبسبب هذه الأهمية المتعاظمة للتأثير النفسي للصراعات المسلحة تم تضمينها في المواثيق والقوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين التي جرمت في نصوصها الاعتداء على الحياة والسلامة الجسدية بتجرين القتل والمعاملة القاسية والتعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية وإصدار أحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة، وربطت ذلك بشكل وثيق مع العدالة الجنائية الدولية وموجبات المسؤولية الجنائية، وهذا الارتباط يسهم بشكل مباشر في إعادة بناء الدول على أساس التعافي الاجتماعي والاستقرار السياسي مرحلة ما بعد الحرب التي يترقب خلالها آلاف الضحايا انصافهم بتحقيق العدالة ومساءلة كل المتورطين في انتهاك حقوقهم وتقديمهم للمحاسبة والعقاب بالشكل الذي يساعد في إبراء الضحايا من الآثار التي حاقت بهم خلال أمد الصراع ويساعدهم كنوع من التعافي النفسي في استعادة الروح والرغبة في الحياة في ظل وطن تسوده قيم العدالة، غير أن تحقيق العدالة بهذا الشكل الذي يترقبه الضحايا من جراء الحرب الماثلة يصطدم بعديد العقبات وأهمها تاريخ البلاد الحافل من إفلات المجرمين في حق المواطنين من العدالة والمساءلة الجنائية عما ارتكبوه من جرائم خلال تاريخ الصراعات المسلحة في البلاد، بل أن بعضهم يعود بأياديه الملطخة بدماء الضحايا إلى كراسي الحكم مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن، وهو الأمر الذي ينذر باستمرار الأزمة وتجدد الانتهاكات وعودة وتيرة العنف لذلك يتوجب على الجماهير مقاومة أي محاولة لإعادة إنتاج الأزمة والوقوف في وجه الحلول التي تكرس للالتفاف حول قيم العدالة والمحاسبة وعدم ترك المجرمين مطلقي السراح ويقع العبء في ذلك على المنظومات القانونية والجماهيرية لترسيخ مبادئ الحق والعدل من أجل بناء سودان ما بعد الحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى