أزمة الديون في الجنوب العالمي وفشل السياسات النيوليبرالية: السودان نموذجا

المقال يرصد المسار الكارثي لسياسات الديون والنيوليبرالية في دول الجنوب العالمي، متخذاً من السودان نموذجاً صارخاً. تحولت “وصفات” صندوق النقد والبنك الدولي من أدوات إصلاح مزعومة إلى آلة لتعميق التبعية، حيث قفزت ديون السودان من 9 مليارات دولار عام 1980 إلى 56 ملياراً اليوم، 60% منها فوائد متراكمة، في حين انهارت الخدمات الأساسية ووصلت نسبة الفقر إلى 65% من السكان.

الآليات التي حولت الديون إلى فخ دائم؛ خمسة أسباب مركزية لفشل النموذج النيوليبرالي هي التقشف المدمر، الخصخصة الفاسدة، فتح الأسواق العشوائي، إهمال السياق المحلي، وغياب الرقابة. تحولت برامج “الإصلاح” إلى وصفة أكيدة لتعميق الأزمات بدلاً من حلها، خاصة في ظل الحروب والصراعات التي أنهكت البلاد.

لهذه السياسات تداعيات اجتماعية مدمرة من خلال رصد آثار رفع الدعم عن الوقود والخبز، وانهيار القطاع الصحي والتعليمي، وتركيز الثروة في يد النخب الفاسدة، والسودان -كغيره من دول الجنوب- ظل ضحية معادلة اقتصادية ظالمة، حيث يتم تصدير المواد الخام واستيراد السلع المصنعة، بينما تذهب عائدات النفط والذهب لسداد فوائد الديون بدلاً من الاستثمار في التنمية.

الخروج من هذه الأزمة يتطلب قطيعة جذرية مع النموذج النيوليبرالي، عبر اعتماد بدائل تنموية حقيقية تقوم على العدالة الاجتماعية والتصنيع المحلي ومحاربة الفساد، ومعركة السودان مع الديون ليست مجرد أزمة مالية، بل هي معركة وجودية من أجل استعادة السيادة الاقتصادية، حيث يصبح المواطن -ولن الدائن- هو محور السياسات الاقتصادية.

 

أزمة الديون في الجنوب العالمي وفشل السياسات النيوليبرالية: السودان نموذجًا

غمر سيد أحمد

 

المقدمة

تواجه دول الجنوب العالمي منذ عقود أزمة ديون متفاقمة، لم تكن مجرد نتيجة لاحتياجات مالية آنية، بل نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية عالمية ظالمة. قدُمت “وصفات” النيوليبرالية، عبر مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدولي، كحلول جاهزة لأزمات هذه الدول. لكن ما حدث فعليًا هو أن الديون تصاعدت، والتنمية تعثرت، والتبعية تعمّقت.

السودان يمثل نموذجًا صارخًا لهذه الأزمة، ليس فقط في تراكم الديون، بل في ارتباط الأزمة بالتحولات السياسية، من الانفصال إلى الانقلابات والحرب. في هذا المقال، نعرض تطور أزمة الدين الخارجي عالميًا، ونحلل التجربة السودانية بالتفصيل، ونوضح لماذا فشل النهج النيوليبرالي، وما البدائل الممكنة.

صعود أزمة الديون الخارجية في الجنوب 

منذ ثمانينيات القرن الماضي، ارتفعت ديون دول الجنوب من 450 مليار دولار في 1980 إلى أكثر من 8.8 تريليون دولار في 2023 (المصدر). معظم هذه الديون جاءت عبر قروض من صندوق النقد والبنك الدولي، مقابل تنفيذ “برامج إصلاح اقتصادي” تقوم على تقليص الدولة، رفع الدعم، الخصخصة، وفتح الأسواق.

هذه السياسات لم تؤدِ إلى تقليص الديون، بل إلى مزيد من الفقر، انهيار الخدمات، وتعميق التبعية. اليوم، تنُفق الدول النامية 971 مليار دولار سنويًا فقط على خدمة الدين، أي أكثر مما تنُفقه على الصحة والتعليم في كثير من البلدان.

فشل السياسات النيوليبرالية على المستوى العالمي 

تجلّى فشل السياسات النيوليبرالية بصورة واضحة في تعامل مؤسسات “بريتون وودز” مع أزمة الديون في دول الجنوب، خاصة منذ الثمانينيات. حين لجأت هذه الدول إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كان الثمن هو فرض سياسات تقشفية شملت خفض الإنفاق الاجتماعي، الخصخصة، وفتح الأسواق أمام رأس المال العالمي.

لكن بدلًا من أن تؤدي هذه السياسات إلى تقليص المديونية، وقعت الدول في فخّ ديون متزايدة، ومع مرور الوقت زادت التبعية ولم يتحقق الاستقلال الاقتصادي. هذه التجربة تظُهر بوضوح فشل هدف المؤسسات الدولية في معالجة أزمة الديون من خلال النيوليبرالية. وأوضحت كارثة الفشل في القضاء، على الأقل، على مأساة تفاقم أزمات الديون الخارجية واتساع قاعدة الفقر والبطالة للعالم الثالث وتعقيداتها بأن مؤسسات بريتون وودز هي المشكلة وليس الحل.

نمو الديون الخارجية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (1980–2020):

 1980s: 60%

 1990s: 75%

 2000s: 85%

 2010s: 95%

 2020s: 105%

 هذا الاتجاه الصاعد يعكس فشل السياسات في الحد من الديون، ويؤكد أن النيوليبرالية أسهمت في تفاقم الأزمة لا حلّها.

 يعكس هذا الاتجاه التصاعدي فشل السياسات في كبح جماح الديون، ويؤكد أن النيوليبرالية أسهمت في تفاقم الأزمة بدلاً من حلها.

أبعاد فشل السياسات النيوليبرالية 

  1. سياسات التقشف والآثار السلبية وتجاهل الظروف المحلية والإنسانية 

خفض الإنفاق الحكومي وخصخصة الخدمات العامة أدّيا إلى تفاقم البطالة والفقر، وارتفاع تكلفة المعيشة، وانهيار الخدمات الأساسية.

لم تؤدِّ هذه السياسات إلى تحسين الاقتصاد، بل إلى خلق فجوات اجتماعية أوسع، وأزمات سياسية في عدد من الدول.

  1. فشل تحقيق الأهداف 

رغم الوعود، لم تفُلح السياسات النيوليبرالية في تقليص الديون، بل استمرت في الارتفاع. كانت الدول تأخذ قروضًا لسداد قروض سابقة، مما خلق دائرة مفرغة من التبعية.

  1. تجاهل الظروف المحلية وتجاهل الأوضاع المحلية والإنسانية

فُرضت نماذج اقتصادية موحّدة دون اعتبار للواقع المحلي. لم يتم احترام الخصوصيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ففشلت الإصلاحات لأنها لم تنبع من السياق الفعلي للدول. حالة السودان المنشغل بحروب أهلية وصراعات مستمرة بما يبدد الموارد للتنمية قبل توفير موارد لسداد القروض.

  1. دعم الفساد وتوسيع قاعدته 

الخصخصة غير الشفافة، وغياب الرقابة، أدّيا إلى تركيز الثروة في يد النخب، وفتح المجال للفساد المنظم، خاصة في الأنظمة غير الديمقراطية.

  1. الحاجة إلى نموذج بديل 

تظُهر التجربة أن النيوليبرالية ليست مسارًا إلزاميًا. هناك حاجة إلى سياسات تنموية محلية، تركز على العدالة الاجتماعية، والسيادة الاقتصادية، والتمكين المجتمعي، بدلًا من الاستسلام لوصفات خارجية مفروضة. 

السودان: تطور تاريخي لأزمة الديون 

السبعينيات والثمانينيات: بدأت الأزمة باقتراض السودان لتمويل مشاريع تنموية، وبلغ الدين الخارجي حوالي 9 مليارات دولار عام 1980.

التسعينيات: مع العقوبات الدولية وعدم السداد، تراكمت الديون لتصل إلى أكثر من 21 مليار دولار بحلول عام  .2000

ما بعد الانفصال (2011): فقد السودان 70% من عائداته النفطية، وبلغ الدين حوالي 51 مليار دولار في 2017.  

الحكومة الانتقالية (2019–2021): نجحت في رفع السودان من قائمة الإرهاب وبدأت عملية إعفاء ديون مع نادي باريس، الذي شطب 14.1 مليار دولار في 2021.

انقلاب أكتوبر 2021: أوقف العملية، وجمّد المجتمع الدولي التفاوض. 

الحرب في 2023: انهار الاقتصاد، وتقدّر الديون بـ 56 مليار دولار، 60% منها فوائد متراكمة.

الأسباب الخمسة لفشل النيوليبرالية (السودان نموذجًا)

تقليص الدولة في بيئات غير مهيّّأة.

خصخصة دون شفافية أو رقابة.

فتح الأسواق دون حماية للإنتاج المحلي.

سياسات تقشف على حساب الفقراء.

ارتهان للتمويل الخارجي بدلاً من السيادة الاقتصادية.

آثار التقشف والخصخصة في السودان 

رفع الدعم عن الوقود والخبز أدى إلى احتجاجات شعبية واسعة. 

الخصخصة تمت دون شفافية، وذهبت مؤسسات الدولة إلى شبكات مصالح محدودة.

 الخدمات العامة انهارت، وزادت معدلات الفقر والبطالة.

 تجاهل الواقع المحلي في التجربة السودانية 

 الوصفات النيوليبرالية المفروضة على السودان لم تراعِ ضعف المؤسسات، أو هشاشة الاقتصاد الريعي القائم على النفط.

فُرضت سياسات تحرير وخصخصة في بيئة تفتقر للحوكمة والرقابة، ما أدى إلى نتائج كارثية بدلًا من “الإصلاح”. 

 بدائل واقعية 

بناء اقتصاد منتج قائم على الزراعة والصناعة المحلية.

تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص.  

تطوير نظام ضريبي عادل يمول الدولة دون الاعتماد على الخارج.

محاربة الفساد بآليات رقابة مستقلة وشفافة.

دعم التنمية المحلية من القاعدة إلى القمة، بمشاركة المجتمعات المحلية.

الخاتمة 

 ما تعانيه دول الجنوب، وعلى رأسها السودان، ليس مجرد أزمة ديون، بل أزمة نموذج عالمي غير عادل. النيوليبرالية فشلت لأنها لم تضع الإنسان في مركز السياسات، بل كانت منحازة للأسواق والدائنين.

 الطريق البديل لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل يجب أن ينبع من الداخل. عبر نموذج إنتاجي عادل، يعيد الاعتبار للسيادة الاقتصادية، ويمكّن المجتمعات من صياغة مصيرها الاقتصادي والسياسي.

 المصادر 

 https://alsifr.org/global-south-debt

تقارير صندوق النقد الدولي – السودان 2019–2021 

بيانات البنك الدولي – الديون الخارجية 

تقارير نادي باريس وHIPC 

دراسات عن الاقتصاد السوداني والسياسات النيوليبرالية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى