حرب أبريل: سرقة الهوية والتأريخ
منهوبات المتاحف السودانية على منصات البيع الالكتروني
كتابة حول الكارثة الثقافية التي لحقت بالتراث السوداني خلال الحرب الدائرة منذ أبريل 2023، حيث تحولت المتاحف الوطنية إلى ساحة نهب ممنهج لقوات الدعم السريع، حيث تجاوزت المأساة مجرد الدمار المادي لتمسّ جوهر الهوية السودانية، عبر سرقة وتدمير أكثر من 50 ألف قطعة أثرية تعود لحضارات نبتة ومروي والممالك المسيحية والسلطنة الزرقاء، في عملية تشبه تجريف الذاكرة الجمعية للأمة.
الكاتب ينوه إلى الأبعاد الدولية لهذه الجريمة، ويسلط الضوء على ظهور القطع المسروقة في أسواق الآثار العالمية ومواقع البيع الإلكتروني، خاصة على الحدود مع جنوب السودان. مشيراً إلى أن مصير هذه الآثار بات بين أيدي الميليشيات، في تكرار مأساوي لسيناريو نهب متاحف العراق أثناء الغزو الأمريكي.
يحلل المقال الدوافع الخفية وراء هذه الحملة ويطرح تساؤلاً جوهرياً: هل تمثل سرقة الآثار مجرد “غنائم حرب” عابرة، أم أنها جزء من مشروع سياسي أوسع يهدف إلى طمس الهوية السودانية وإعادة تشكيل الوعي التاريخي للأجيال القادمة؟ قد يكون من وجهة نظره غياب الاهتمام الشعبي بحماية هذا التراث – رغم ثرائه – منح الضوء الأخضر للميليشيات لمواصلة جرائمهم الثقافية دون رادع.
يشير المقال إلى فشل المؤسسات الدولية في حماية التراث السوداني، رغم تصنيف العديد من هذه القطع كتراث إنساني عالمي. يعتبر أن استعادة الآثار المسروقة لن تكون أولوية في ظل استمرار الحرب، مما يهدد بفقدان السودان ليس فقط لحاضره، ولكن أيضاً لجذوره الحضارية التي تشكل درعاً معنوياً ضد محاولات مسخ الهوية وإعادة كتابة التاريخ وفق روايات القوة الغاشمة.
======
حرب أبريل: سرقة الهوية والتأريخ
منهوبات المتاحف السودانية على منصات البيع الالكتروني
سمير شيخ إدريس
(1)
لم يكن أكثر السودانيين تشاؤمًا عند صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023 يتوقع بأنه على موعد مع أسوأ الكوابيس التي يمكن أن يشهدها، وما ينتظره من كل مشاهد البؤس التي خلفتها الحرب وألقت بالشعب في محارق متصلة من القتل واللجوء والتشريد والإذلال وفقدان كل ما يملك من الأمان والبيت والذكريات، وما فتئت تلك الحرب اللعينة تطارد المواطن السوداني، فتجاوزت سرقة أحلامه وتعدتها لسلب تاريخه وهويته لتتركه في العراء حطامًا بلا ذاكرة أو تاريخ، فمن مصادر فخر المواطن على مدار انحطاط الدولة والفشل السياسي الذي عايشه كان ذلك البصيص من الإرث التاريخي، الذي رغم أنه وقف شاهدًا على هذا الفشل إلا أنه من جهة أخرى دلل على عمق تجربته الإنسانية بما يجعله مباهيًا بين الأمم، حيث لم تكتف أيادي البرابرة والنازيين الجدد بخطف أمانه بل إمتدت للعبث بهويته ومحاولة طمسها ومحو كل أثر يدل على امتداد جذره في التاريخ، فطالت تلك الأيدي الآثمة على هامش ما اقتطفته آلتها العسكرية ما توافر في طريقها من الإرث التاريخي الذي شادته أروقة المتاحف السودانية في المتحف القومي بالخرطوم، ومتحف بيت الخليفة بأم درمان، ومتحف على دينار بفاشر السلطان، ومتحف التاريخ الطبيعي، وغيرها من المنارات الثقافية التي تبوأت مكانة سامقة على المستوة المحلي والعالمي، وكانت قبلة لكل من رغب في الغوص في لجة التاريخ وعوالم الفكر الثقافي والمعرفة، مستأنسًا بصحبة عظيمة من سادات العالم وملوكه من تهارقا إلى بعانخي على بلاط الكنداكات أمنريدس وأماني شخيتو، ومستصحبًا أثر كتابه المقدس في سيرة العظام.
(2)
يعد المتحف القومي الذي تم افتتاحه بشكله الحديث على مفرق النيلين عام 1971 بعد نقله من كلية الآداب التي ظل قابعًا فيها منذ العام 1904، من أكبر وأميز المتاحف في أفريقيا لما يضمه من قطع أثرية متنوعة كالتماثيل والأسلحة والآنية الحجرية من مختلف أرجاء السودان، تؤرخ لعصور التاريخ السوداني المختلفة من العصر الحجري القديم في القرنين السابع والثامن قبل الميلاد وآثار مملكة نبتة ومملكة مروي والممالك المسيحية حتى الحقبة الإسلامية لاحقًا، وأكثر ما يميز المتحف القومي حديقته الخارجية التي ضمت عددًا من التماثيل والمعابد والأعمدة النوبية التي صفت على حوض مائي يمثل نهر النيل للإيحاء بوجودها في موقعها الأصلي، حيث تم جلبها من شمال السودان قبل الإغراق ببحيرة السد العالي، إضافة لذلك ضمت القاعات الداخلية أيضًا العديد من الآثار والصور التي تشير إلى مظاهر الحضارة السودانية المختلفة في شتى الأنحاء ما زاد على قيمة المتحف وجعله إحدى المنارات التاريخية المعبرة عن هوية الأمة والإشارات التاريخية لمراحل تطورها عبر العصور المختلفة حتي التاريخ الحديث، وما يدلل على الأهمية التي اكتسبها المتحف القومي السوداني ذلك الاهتمام الكبير والرعاية التي يحظى بها من منظمة اليونسكو، والجمعيات الدولية للآثار التي شاركت في كثير من أعمال التأهيل والصيانة للمتحف، وأوفدت على مدار السنوات الخبراء المختصون في المجال من أجل حفظ وصون المقتنيات التاريخية بسبب عظمها ودلالاتها على الهوية الحضارية على مستوة التاريخ الإنساني. لكن مع اندلاع الحرب أصبح المتحف القومي وعددًا من المعالم التاريخية بالعاصمة والولايات تحت قبصة مليشيا الدعم السريع، وقد أثبت أحد المقاطع المصورة التي بثت عبر الميديا عددًا من جنود المليشيا داخل المتحف يعبثون بمحتوياته في قمة السخرية، ولم تفد مناشدات المختصين في مجال الآثار لمستشارية الدعم السريع بإجلاء جنوده عن المتحف عن وقف العبث والنهب والتخريب الذي طال المتحف وغيره لاحقًا أثناء الحرب.
(3)
وفقًا للإفادات الصادرة عن المختصين في الهيئة العامة للآثار والمتاحف وإحدى الوكالات الأمريكية المختصة على وسائل الإعلام، تم الاعتداء على الإرث التاريخي لأكبر المتاحف السودانية حاضنة الإرث الحضاري التليد بالنهب والتخزيب الذي خلف عديد الخسائر التي لا تقدر بثمن، وقد تم تداول صور عبر الأقمار الصناعية لشاحنات تتبع لهيئة الآثار محملة بآثار من المتحف القومي وتتجه غربًا أو جنوبًا حسب اختلاف المصادر، فبعد إجلاء قوات الدعم السريع من منطقة المقرن التي كانت تسيطر عليها ويقع المتحف القومي في نطاقها الجغرافي قدرت لجنة حصر المفقودات القطع المسروقة مبدئيًا بحوالي 50 ألف قطعة من داخل مخازن الهيئة، التي تعد المستودع الرئيسي لكل الآثار السودانية التي تم كسرها، وشملت المنهوبات قطعًا ذهبية ومجوهرات تخص ملوك وملكات مملكتي نبتة ومروي، وتم تدمير بقية الآثار الحضارية الدالة على التاربخ التي لم تتعرض للسرقة، كما تعرض متحف السودان للتاريخ الطبيعي الذي يحوي أنواعًا لحيوانات من زواحف وطيور ونباتات نادرة متعددة وعينات بحثية، وبسبب هجرة المتحف لوقوعه في منطقة النزاع نفقت كل الحيوانات والنباتات لانعدام الطعام والرعاية والتعرض للقصف، كذلك كشفت مشاهد تحرير القصر الجمهوري الدمار الهائل الذي حاق بمتحف القصر الذي يحوي آثارًا تاريخية متعددة ونادرة، كما تم نهب متحف بيت الخليفة بأم درمان الذي يحوي مقتنيات وآثارًا تاريخية تعود لفترة المهدية من مخلفات معارك الحكم التركي وأسلحة متنوعة وعملات نقدية نادرة تؤرخ لذلك العهد، وفي دارفور تعرضت ثلاثة متحف هي متحف السلطان على دينار الذي يحوي مقتنيات إرث سلاطين السلطنة العريقة، ومتحف نيالا ومتحف الجنينة، كما طال النهب والتدمير مواقع أثرية أخرى في مروي وجبل البركل، إضافة لذلك تعرضت مباني ومقار تعليمية وحكومية تعد في عداد المباني الأثرية للدمار بسبب القصف، وكل تلك المعالم الأثرية عززت من مكانة السودان في الإرث الحضاري بين الدول ضمن سجلات اليونسكو والمنظمات المختصة بالآثار وتاريخ الشعوب الذي أبت مليشيا المغول الجدد إلا أن تمحوه بشكل ممنهج يهدف لطمس هوية الأمة، ومحو الإرث الثقافي وإحلال ثقافة البندقية والعنف شأنهم كقوم هولاكو يعبرون النهر بحافر خيلهم على ركام الكتب.
(4)
بلغت مأساة نهب الآثار السودانية في الشهور الفائتة، حين ظهرت بعض القطع الذهبية واللوحات المسروقة من المتاحف السودانية معروضة للبيع على أحد المواقع التجارية في شبكة الإنترنت، وأكد المختصون بإدارات الآثار ذلك، وأضافوا عن رصدهم لمبيعات بعض القطع الأثرية المسروقة في المناطق الحدودية مع دولة جنوب السودان، كما أصدرت الخارجية السودانية بيانًا تتهم فيه قوات الدعم السريع بنهب آثار المتاحف السودانية من أجل تحقيق مخططهم لطمس تاريخ الأمة، وعدت ذلك جريمة حرب توعدت بمحاسبة مرتكبيها، كما أعربت عن تواصلها مع المنظمات الدولية المختصة لاستعادة الآثار المنهوبة، وقد أدى ذلك التداول للآثار السودانية المنهوبة لإحداث صدى واهتمام دولي، إذ حذرت اليونسكو من نهب الآثار السودانية وقالت إنه ييقود إلى محو وضياع ذاكرة آلاف السنين من الحضارة والمعرفة. ودعت المجتمع الدولي للتدخل لحماية التراث السوداني من الضياع، والاستعانة بالقانون الدولي لتعزبز تلك الحماية، وقد بادرت جهات الاختصاص المحلية والناشطون ببعض التحرك الخجول من أجل إنقاذ التراث الثقافي، بتكوين لجنة لتقدير الأضرار وحصر المنهوبات، ومناشدة جهات الاختصاص المحلية والدولية بتتبع الآثار واستعادتها والاستعانة بالقانون الدولي الذي ينص على حماية الآاثار الثقافية خلال النزاعات المسلحة ويعدها صمن جرائم الحرب شأنها وشأن جرائم الإبادة والتطهير، فهل ستسفر تلك الجهود عن نتائج إيجابية أم ستدخل عملية النهب ضمن عمليات أخرى استهدفت سرقة التاريخ ومرت مرور الكرام، ويشهد عليها أكداس الآثار التي تضمها متاحف العالم الأروبي التي تعد ضمن مسروقات الشعوب المستضعفة والمستعمرة سابقًا.
(5)
والسؤال الذي يطرح نفسه وسط غبار الواقع السوداني الموغل في مأساته الإنسانية، هل تمت عملية السرقة والنهب للآثار السودانية وفق عملية ممنهجة تعد من أهداف الحرب غير المعلنة، تستهدف ذاكرة وتاريخ الوطن وطمس هويته ضمن مشروع عالمي لإحداث تغييرات ديموغرافية وثقافية، ضمن عملية إحلال وإبدال تقف وراءها أيادي وعقول تعي ما تعمل، أم أنها مجرد عمليات نهب وسرقة يمكن تفسيرها وفق قواميس الحرب والغارة وغنائم الحرب؟ وتكمن الإجابة على هذا السؤال وفقًا لرؤية الشعب لتاريخه المسيج خلف جدران تلك المتاحف والنقوش المعبرة عن هوية الأمة، ومدى إفادته من قراءة التاريخ لبناء المستقبل الذي يبدو أنه لم يمر في أي من عمليات استشرافه عبر التاريخ البشري السوداني، لجعل التاريخ أداة نهوض عبر القراءة الممعنة في تفاصيله واستلهامها بشكل موجب يجعل الحاضر ترسًا متصلًا في دوران عملية التاريخ في بناء أمة عظيمة، حيث لا تزال ذاكرة الأمة السودانية مسيجة في سور الخرافة والقبيلة بالشكل الذي يباعد سيرها عن الصيرورة التاريخية، كحلقة من السير والملاحم العظيمة التي يمكن أن تخرجه مثل عنقاء الرماد من خرائب الحرب، وقد أثبتت التجارب أننا أمة لا تستلهم العبر من تاريخها الذي مهما تعرض للنهب فلن يجد من يبكي عليه لذا سهلت سرقة تاريخه الذي سيمضي حتمًا في سياق الغيبوبة الكبرى للشعب.