هندسة الخراب المنظم
نهب البيوت والعربات من جهة منظمة وفق خطة مدروسة سابقة للحرب
سمير شيخ إدريس
لطيلة عامين هي عمر الحرب شهد كل مواطن مواقف معايشة شخصيًا أو مشاهدة عبر الفضاء الأثيري لحجم الدمار الذي حاق بالبلاد، ولا أعني دمار المباني جراء القصف، بل حالة النهب والسرقات المهولة التي طالت بيوت وممتلكات وعربات المواطنين، ومقتنيات المرافق العامة والخاصة، وغالبًا ما يتبع التفكير لهول تلك الكارثة تساؤل أولي حول كيف تمت هذه العملية؟ وأين تم نقل كل هذه المقتنيات عبر المدن والولايات ووصول بعضها لدول الجوار؟ ومن يقف وراء ذلك؟ هل هي مجرد عصابات وجماعات من اللصوص معتادي السرقة، وكيف وأنى لهم بهذه المقدرات المهولة التي يحتاجها هذا الحجم من النهب والخراب، وإمكانية نقل المقتنيات المهولة وإيجاد سوق لتصريفها؟ وكيف تسربت من قبضة القوات المتحاربة التي يصعب معها مرور دراجة مؤمن ود زينب عبر أحد الارتكازات ناهيك عن أمر يحتاج آلاف الشاحنات المحملة، والقدرات على نقل وعبور حقول ألغام ارتكازات وتفاتيش القوات العسكرية نحو مستقرها الأخير الذي ظهرت فيه ؟ لكن كل تلك الأسئلة غالبًا ما تربك كل متسائل وتلقي به في غياهب الحيرة والعجز عن إيجاد تفسير منطقي وإجابة شافية لما حدثـ وغالبًا ما يتناسى ويرمي وراء ظهره المليء بتراكم الآلام التي لن تزيح عن كاهله محض إجابة لن تعيد ما ذهب وأجدى منها إراحة الذهن، غير أني في هذه السطور أحاول إيقاظ هذه التساؤلات في الوعي الجمعي للجماهير المكلومة، ليس لإيجاد إجابات وثوقية وهي لن تفيد بالتأكيد، لكن فقط لإيجاد تسلسلات منطقية تفيد بمدى فداحة المؤامرة ضمن سلسلة المؤامرات التي حاقت بالوطن وإنسانه، علها تشحذ همته لركل تلال حسن النوايا تجاه الحياة التي أوردتنا المهالك ولا نزال نغض العقل عن التعلم ونمضي في غيابة القدرية، وعدم تفتيش النوايا ما يجعلنا أمة لا تعي قسوة الدروس التي انتاشتها وتصر على السير في ذات الطريق وتنتظر نتائج مغايرة طيلة عامين لم ولا نريد التعلم منها.
لدي كل منا تجربة شخصية في ما تعرض له الجميع من مآسي الخسران الكبير لمقنيات شخصية ووسائل حياة تم ترتيبها والحصول عليها عبر عشرات السنين كدحًا وعرقًا ضاعت في أقل من كرة البصر، ومعها أطنان من المحبات والذكريات التي غلفت ذاكرة الأمكنة، ولا يمكن اختزال ما حدث من هول عظيم في محض عملية سرقات من قبل مجموعات ذات ملامح طالما وسمت بالخطيئة عينها، فالأمر أكبر من عربة كارو أو دفار ومجموعة صبية حملوا على ظهرها شاشة تلفاز وثلاجة وطقم وغسالة ثم قام بفرشها في سوق أبو حمامة أو أسواق دقلو متربحًا مئات الألوف، فلو كان الأمر كذلك وفقًا لنظريات الاقتصاد البدائي والعرض والطلب وظروف هجران المدن والبيوت والقوى الشرائية ونيران القصف لتوقف الأمر وفاضت الحوائج بغد أشهر قليلة من بداية الحرب، لكن هذه اللعنة مستعرة حتى الأمس وحتى وصول دائرة الحرب أشبار جديدة ما يعني أن غول الطلب لم تشبع شهيته في الالتهام، ويقول هل من مزيد، وهل تستطيع العصابات الصغيرة التي رأيناها تحمل الشاشات والمتاع المنزلي على ظهر الكارو أن تنظم وتهندس نقل هذه المسروقات لأسواق جديدة عابرة للمدن والولايات والحدود، فما شوهد من معروض في الضعين وكسلا وتشاد وجنوب السودان لم يكن خطة ذلك السارق الصغير وحجم إمكاناته المادية والذهنية، وهنا يقول المنطق أن لصنا الصغير لم يكن سوى حلقة أضعف وأصغر تطوقها حلقة أكبر في المقدرات والنفوذ ما يشي بالفعل بترتيب الأمور وهندستها بنظام يفوق التصور وفي كتمان لأيدي آثمة لم تشأ الظهور علي مسرح الحدث.
لنمض قليلًا في إمعان العقل والمنطق في سير وتسلسل الأشياء والأحداث بالسؤال كم تعرف من البيوت والمحال والمنشآت، ولن أقول الأحياء التي تعرضت للنهب والسيارات التي سرقت من العاصمة ومدني والجزيرة وسنار وسنجة إبان الحرب؟ هي عشرات بل مئات الألوف، ولو نسبنا لكل بيت منهوب قطعة لكل جهاز كهربائي أو إلكتروني ستكون حصيلة منهوبات العاصمة مئات الألوف من الشاشات والثلاجات والبوتاجازات والغسالات وأطقم الجلوس والأسرة، مضافة لمنهوبات مخازن المصانع والمحال التي تعمل في مجال تصنيع وتسويق هذه الأجهزة، كما أنه لا أريد الإشارة إلي أن النهب طال منقولات أخرى تعجب من تعرضها للنهب مثل مفاتيح اللمبات والزنك وأغطية المنهول والأبواب والشبابيك وصهاريج المياه وغيرها الكثير الذي لا يمكن إحصاؤها، ولنسأل في مدينة أشباح ليس بها أمان أو مواطنين أو قوى شرائية لتصريف المسروقات يكون من المنطقي أن يتم نقلها لأسواق أخرى في الولايات أو عبر الحدود، وهو الأمر الذي يستلزم قدرة لتوفير وسائل نقل مهولة وامكانية إنفاذها عبر ارتكازات العسكر المتحاربة وبوبات العبور نحو الولايات أو حدود دول الجوار ومن المؤكد ذات الأيدي آثمة الذكر.
أفاد العديد من شهود العيان أن عمليات النهب تمت على مراحل متعددة لذات العقار فعند دخول قوات الدعم السريع استهدفوا كل البيوت بسرقة ما خف حمله وغلا ثمنه، وفي مرحلة ثانية تمت عمليات النهب للأجهزة الكهربائية وبعض المقتنيات غالية الثمن، وكانت هذه المرحلة تتم تحت حماية القوات المرتكزة في الأحياء بدفع الناهبون مبالغ معينة لتلك القوات مقابل كل بيت، وفي مرحلة ثالثة تتم عمليات السرقة بواسطة عربات الكارو لما تبقى من أثاث وأطقم جلوس وأسرة ومطابخ ومراوح، وفي مرحلة رابعة لم تعتق البيوت المنهوبة الفارغة من سرقة مفاتيح الأنوار والزنك وأبواب الشوارع والغرف، وبلغ التنظيم والدقة لعمليات النهب أن اللصوص يضعون علامات بالبوهية مثلًا علي البيوت المفروغ من نهبها كعلامة على الفراغ منها، إضافة لما سبق تمت عمليات نهب أخرى ذات طابع تخصصي وتقني تتجاوز عقلية اللصوص المحدودين وتقف وراءها عقليات ليست عادية مثل سرقة القطع الأثرية من المتحف القومي وبيت الخليفة والفاشر التي شوهدت عبر الأقمار الصناعية محملة في شاحنتين تتجهان غربًا، وشوهدت لاحقًا معروض جزءًا منها في دول الجوار وعلى أسواق البيع في الإنترنت، وتمت سرقة كيبلات كهربائية وأجهزة معامل ومعدات ومواد مصانع تحتاج لمختصين في تقييم ورصد وفك وتركيب وترحيل ومن ثم تسويق تلك الأجهزة والمعدات بعناية، كل ذلك يذهب شاهدًا على أن عمليات السرقة والنهب التي تمت للبيوت والمرافق، وإن بدت في ظاهرها عمليات سرقة عادية، تم تحت ستارها عمل منظم لسرقات لا يمكن إلا وأن تقف وراءها جهات قامت بتخطيط منظم في وقت كافٍ ولها مقدرات وإمكانيات عالية من موارد مادية وقوى بشرية ومقدرة على تجاوز النقاط العسكرية وحرية الحركة في مساحات واسعة رغم الحرب، ولا شك أن ذلك يدل على علاقتها الوثيقة بطرفي الحرب من الجيش والمليشيا لترتيب عمليات النقل والترحيل، غير أنه لا يمكن الجزم بمدى تورط قيادة كلا الطرفين بما تم من عمليات التجريف الواسع لممتلكات المواطنين والمرافق المختلفة. وعل ما سبق يمكن أن يقوم شاهدًا على حجم المؤامرة التي تعرض لها المواطن الذي لا يزال غافلًا بحلم العودة.