السر السيد
يتعدى الفن حالة كونه موهبة أو إلهامًا ينفرد به بعض الناس إلى أنه شكل من أشكال الوعي الإنساني تتحكم في تخلقه شروط ذاتية وموضوعية، وإنه على صلة بالثقافة عبر تعريفاتها المتنوعة والمتحولة، وبهذا الفهم لا تقف أدواره عند الترفيه والترويح بل تتعداهما إلى أن يصبح مصدرًا من مصادر المعرفة، وحاملًا لرسائلها ومحفزًا عليها في نفس الوقت، بسبب أنه ينطوي على رؤيا للعالم تؤول الطبيعة والتاريخ وتتدخل في مساريهما.
تعيش الفنون وضعًا حرجًا في مجتمعات المسلمين الراهنة، يجد تعيينه البليغ في موقف المؤسسات الإسلامية الرسمية والأهلية كالمجمعات الفقهية وتنظيمات العلماء والحركات الإسلامية، التي تستهدف التغيير المجتمعى سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا من المرجعية الإسلامية، ومن ثقافة المجتمع، بحكم تأثرها بتلك المرجعيات، هذا الوضع الحرج يتمثل في مراوحة الفنون بين مشروعيتها وعدم مشروعيتها. بين أنها حلال أم حرام. هذه الوضعية بالضرورة تستبطن عددًا من الأسئلة وتقود إلى بعض المآلات، فمن الأسئلة سؤال لماذا سادت وهيمنت آراء وفتاوى عدم المشروعية ولم تسد وتهيمن آراء وفتاوى المشروعية؟ وسؤال لماذا ظلت الشعوب المسلمة في الماضي والحاضر وعلى الدوام تمارس الفنون بمختلف أشكالها إنتاجًا وتلقيًا وتذوقًا بالرغم من وجود آراء وفتاوى عدم المشروعية قديمًا وحديثًا؟ فإذا كانت الموسيقى حرام والنحت حرام والرقص والتصوير حرام، فلماذا ظلت الشعوب المسلمة تمارس هذه الفنون وترتاد أماكنها من متاحف ودور عرض مسرحية وسينمائية، بل وتنشأ لها المؤسسات الأكاديمية المتخصصة؟؟ لا يفوتني هنا أن أذكر أن الحضارة الإسلامية التي نتفاخر بها ومعنا دعاة التحريم، قد تميزت بمساهماتها في الفلسفة والعرفان والعلوم الطبيعية والفنون أكثر من تميزها بعلوم الفقه والتفسير والحديث على أهميتها. يقول كلود كاهن في كتابه الإسلام منذ إنشائه حتى ظهور السلطنة العثمانية:
(الفن هو الميدان الذى سجل فيه الإسلام أرفع تفوق له في تاريخه كله وهو الميدان الأكثر تشويقًا واجتذابًا لأبناء الحضارات جميعًا، فيه ولا ريب تنوع واسع واختلاف كبير وله فترات ازدهار وانحسار، لكن ذلك كله لا يلغي الطابع العام الذى يميزه ويختص به وحده). أما المآلات التى نتجت من القول بعدم المشروعية أو القول بالمشروعية فتكاد تكون واحدة، فالقولان يعبران عن موقف سالب من الفنون الموجودة بالفعل، فالأول لا يعترف بمشروعيتها وبالتالي لا يعترف بدورها لذلك يدعو إلى منعها وإلغائها، والثاني لا يعترف بشكلها الراهن ويدعو إلى إنتاج فن بديل لها هو “الفن الإسلامى” أو في أحسن الأحوال يدعو إلى التدخل فيها أي إلى “أسلمتها”، لتكون النتيجة الأخيرة لهذين الموقفين المختلفين ظاهريًا هي عدم الاعتراف بها مما يعني وضعها في هامش الأولويات المجتمعية وخروجها من سياق الذهن الكلي الذي ينهض بمهمة التطوير المجتمعي الذي يعني التنمية بمفهومها الأشمل، فنظرة سريعة إلى المؤسسات والتنظيمات التي تتخذ الإسلام مرجعية نجد أنها تستميت في بذل الاجتهاد تلو الاجتهاد في مستجدات السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم ولا تفعل إلا القليل في الفنون – هنا لا ننسى مساهمات عدد من المفكرين الإسلاميين الحركيين كالشيخ الترابي مثلًا- ذلك القليل الذي لا يتعدى إنتاج الفتاوى والآراء حول تمظهرات الفنون دون الغوص في ماهيتها وموقعها في الخبرة الإنسانية الفردية والمجتمعية.
هذا الموقف من الفنون، الذي في أحسن حالاته يسعى إلى أسلمتها، يكشف من جانب آخر عن سيطرة النزعة العملية الواقعية كسمة ظلت ملازمة للفقه الإسلامي منذ نشأته وإلى الآن بحسبانه العلم الذي ينشغل بالحوادث المجتمعية الماثلة وبما يستجد فيها، ولأنه ولأسباب كثيرة نشأ أو هكذا أريد له، منفصلاً عن معارف أخرى خرجت من الإسلام كعلم الكلام والعرفان وعلم اللغة، أو معارف مهاجرة من حضارات أخرى منحتها الحضارة الإسلامية طابعها وإعادة إنتاجها ووطنتها في نسيجها كالفلسفة والتصوف غلب عليه – أي الفقه – طابع التفكير اليومي والمساومة، فهو عبارة عن آلية لتحديد المصالح عبر ميزان يحدد ما هى المصلحة وما هي المفسدة، ففي نظر هذا الفقه أن الدين يتجلى في اليومي والمعيش، كما تتصوره وتحدده السلطة بمفهومها الأشمل، لذلك عنده لا مجال للنقد ولا مجال للتأمل بل لا مجال للعقل، ومن هنا اكتسب عمليته وواقعيته فجاءت نظرته للفنون كما ينظر لأي فعل آخر من أفعال الإنسان ومدى بعده أو قربه من الحلال والحرام غافلًا عن خصوصية هذا المنشط الإنساني واختلافه عن كل أفعال الإنسان الأخرى، وغافلًا كذلك عن مقاربة العلوم ذات الصلة بالفنون كعلم اجتماع الفن وعلم الجمال وعلوم النقد الفني والأدب وعلوم التلقي والتذوق، وهي علوم لولا انغلاق المدرسة الفقهية تجد أساسها في العلوم التي أنتجها المسلمون، وتحضرنا هنا مساهمات الغزالي وابن عربي وابن سينا والتوحيدي والجرجاني وغبرهم في ماهية الجمال وماهية الفنون وماهية التذوق، وهي مساهمات كما نعلم لا يعبأ بها كثيرًا هذا الفقه، بل لا يعترف حتى بالذين قالوا بها فهم جميعًا في قفص الاتهام بمن فيهم الغزالي ولو بدرجة أقل.
كان من نتائج هذه النظرة العملية الجامدة أنها حصرت الفنون بشكل عام في الغناء والموسيقى والنحت والأدب، وهي هنا وللمفارقة لا تبعد كثيرًا عما يقول به بعض منظري علم اجتماع الفن الغربيين الذين أشار إليهم بول ويليس في كتاب سوسيولوجيا الفن – طرق للرؤية، عندما قال:( يفشل علم الاجتماع وبالقدر نفسه التخصصات المنافسة له في مسعى فهم المسائل الفنية، ويرجع ذلك إلى الاتفاق في إدراك أن الفن ليس كياناً معيناً ومحدوداً مرادفاً لمفهوم “عوالم الفن” ذلك أن الجمال هو في الواقع متصل ومستمر مع الجريان العام لممارسات الحياة اليومية، ولا تقوم به فقط مجموعة من الاختصاصين الذين يدعون – فنانين – بل يشارك فيه كل الأفراد في الحياة اليومية في سياقات من الأنشطة الحياتية العادية).
وأنها وقفت أي هذه النظرة عند حد إصدار الأحكام على المنتوج الفني بعد أن حصرت مهمته فيما يمكن أن يقدمه من رسائل دون أن تكلف نفسها الخوض في سؤالَيّ الحرية والالتزام كمبحثين يتصلان اتصالاً بنيوياً بالفنون ودورها، وهذا من وجهة نظري تبسيط مخل للعملية الفنية نفسها، وأنها أسهمت ولحد كبير في أن يعتزل العديد من الفنانين والفنانات فنونهم بدعوى أنها حرام كما في مجالات الموسيقى والنحت والتمثيل والرقص، وأسهمت وبشكل رئيس في أن تكون الفنون في هامش أولويات المجتمع، بل وفي هامش مشاريع الإصلاح التي تدعو لها هذه المؤسسات، والمنظمات، والحركات، فالفنون في مجتمعاتنا رغم صوتها العالى إلا أنها لا تجد الاعتراف الذي يدمجها في نسيج الحياة اليومية ويضعها ضمن الأهداف والوسائل التنموية، وهذا من وجهة نظري يمثل أكبر الكوارث التي نجمت عن هذه الفتاوى والآراء الفقهية، فليس ما هو أكثر كارثية من التضحية بالجمال والفنون، ويكفي أن أشير هنا إلى غياب تدريس الفنون وعلم الجمال والنقد والتذوق في الجامعات والمعاهد (الإسلامية)، وغيابها أيضاً في انشغالات المجامع الفقهية بما يتجاوز إصدار الفتاوى .
إذن ما هي الحصيلة :
- تغييب دور الفنون في التربية الجمالية وفي الإشباع الروحي، وبالتالي دورها في التنمية المجتمعية .
- تجريد المجتمع وبالتالي الأمة من أحد مصادر قوتها، ونعني الفنون بسبب أنها تشكل الحامل والملمح الرئيس لأي حضارة من الحضارات .
- أدت ثقافة التحريم هذه مع اعترافنا بضرورة وجود معايير تحكم الفنون فيما تقدمه من قيم وأفكار وفيما تتخذه من أشكال، أدت إلى إضعاف الإحساس بالجمال، وإلى تكريس ثقافة القبح والجمود وإضعاف ملكة التفكير النقدي، فكما يقول د. نصر حامد أبو زيد في كتابه التجديد والتحريم والتأويل: (الفن حاجة وليس ترفاً، وحياة بلا فن هي حياة جافة مبتذلة رخيصة).
استحقاقات الفنون :
بما أن الفنون تعد مكوناً من مكونات الثقافة فلا يمكن النظر إليهما الآن بمعزل عن السياق العالمي، وكما يقول د. كمال عبداللطيف:
(… فقد انتهى الزمن الذي كان ينظر فيه إلى الثقافة كنشاط فرعي ومغذ للوجدان.. إنها تندرج اليوم ضمن الخطوط الكبرى للتوافق في السياسة والاقتصاد داخل المجتمع، وإذا كان من المؤكد اليوم أن الثقافة تتميز إضافة إلى ما أشرنا إليه بكونها عبارة عن منتوج متعولم).. فإِن كان ذلك كذلك فسيكون للفنون استحقاقات تتعدى فتاوى التحريم أو الإباحة حتى تقوم بدورها، ومنها:
* حماية الحق في المشاركة في الثقافة والحق في حرية التعبير وهو ما يعني إبداع الفنون وتلقيها وتبادل المعلومات والأفكار .
* الاعتراف بالثقافة والفنون كمكون أساس في التنمية الإنسانية، فقد أعلنت الأمم المتحدة في جلستها الـ 66 في عام 2011 م (أن الثقافة تسهم في تنمية قدرات إبداعية مجددة لدى الأفراد، وهي مكون هام من مكونات التطور والابتكار في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما تم إعادة التأكيد على صلة آلية التعاون الدولي والإقليمي بالعمل الثقافي والإبداع الفني).
* دعم وتأهيل المؤسسات والهيئات والتنظيمات التي تُعنى بالفنون حكومية كانت أم مستقلة وتمكينها من القيام بدورها.
* خلق حوار فكري جاد بين المؤسسات التي تُعنى بالإبداع والفنون والمؤسسات التي تُعنى بالدعوة والفقه.
* حماية المبدعين واحترام حرياتهم وتمكينهم من التعبير عن إبداعاتهم.
* إدماج الفنون بشكل جاد في المشاريع التنموية وفى الإصلاح بمفهومه الأشمل.
ختاماً أقول:
إن الجمال يكمن في صميم بنية الوجود، وأنه فطرة وأنه من نعم الله الكبرى، وأن الفنون تعبير لا غنى للمجتمع وللفرد عنه، وهي ذات أثر بليغ في حياة الناس ولأنها كذلك لا مفر من إعادة النظر في الموقف السالب منها، فقهيًا، ومجتمعيًا، والعمل على تعزيزها وإدماجها في الشأن المجتمعي والحضاري .