حين يصبح الموت سياسة
لم يعد الموت في السودان فجيعة استثنائيًة تُدوَّن في سجلات الحروب، بل صار نظامًا يوميًا، يتنقّل بين المدن والقرى، ويغيّر ملامحه بين رصاصة وقذيفة وجوع ووباء، فصارت الحياة هي الاستثناء، والنجاة معجزةً.
الكوليرا، التي بدأت في أطراف المخيمات البائسة، خرجت عن السيطرة، وها هي اليوم تجتاح المدن والقرى والأسواق والأحياء، تحصد الأرواح بلا ضجيج. لا مستشفيات، لا معامل فحص، لا أجهزة إنذار مبكر، ولا حتى شفافية. يموت الناس بالإسهال الحاد، ويُدفنون بلا أسماء، فيما يُطمس العدد الحقيقي للمصابين والضحايا، وكأنّ إخفاء الأرقام قد يُخفي الحقيقة أو يجمّل المأساة.
لكن الحقيقة لا تُوارى، والموت لا يُمكن تغطيته ببيانات باهتة أو صمت رسمي، إن التستّر على حجم الكارثة الصحية لا يقل فتكًا عن المرض نفسه، لأن الإنكار جريمةٌ تضاف إلى سجل الجرائم المتخم هذه الأيام.
وفي قلب هذا الانهيار الإنساني والصحي، تطفو إلى السطح تقارير وتحقيقات دولية تثير احتمال استخدام أسلحة كيميائية في بعض جبهات القتال، وكالعادة لا شيء مؤكد، لكن مجرد ورود هذه المزاعم وسط حربٍ تفتقد إلى خطوط قيادة منضبطة وموحدة، وفي ظل تنامي دور المجموعات غير النظامية، واتساع حجم نفوذها الذي وصل إلى أن بعض قيادات هذه المجموعات يخرجون صباح مساء ليتحدوا قيادة الجيش، ويردون على كل كلمة تخرج منهم بكلمة تؤكد أنهم أصحاب اليد العليا، والقول الفصل في هذه الحرب التي تدور على أجساد المدنيين.
كل ذلك يفتح الباب أمام شكوكٍ لا يمكن إسكاتها بالإنكار وحده، وهناك أسئلة تنتظر الإجابة من قيادة الجيش ومسؤولي الدولة، فالجيش، الذي يقول إنه يقاتل دفاعًا عن الدولة، لا يستطيع أن يتنصّل من مسؤوليته تجاه ما يجري في ميادين المعارك، حتى وإن لم يعد يملك السيطرة الكاملة عليها كما هو واضح لكل مراقب. وأي فصيل آخر يحمل سلاحًا، ويزعم تمثيل إرادة شعب، لا يملك الحق في تجاوز القوانين الدولية، أو تعريض المدنيين لأسلحة محرّمة مهما كانت المبررات.
إن الواجب الديني، والالتزام الأخلاقي، والمروءة السودانية الأصيلة، كلّها تقتضي فتح تحقيق عاجل وشفاف في هذه المزاعم. السكوت هنا ليس فضيلة، بل مشاركة بالصمت في جريمة كبرى، وتواطؤ مع القتلة الذين يتباهون ببقر البطون وجز الرؤوس، ولا عزاء لوطنٍ يُقتل فيه الأبرياء مرّتين: مرة بالسلاح، ومرة بالكتمان أو بالصمت خوفًا.
الذين يخفون الحقيقة، ويطمرون الشهود، ويحوّلون الموت إلى أرقام مجهولة، لن يصنعوا نصرًا، بل يؤسّسون لدولة من الخراب. السودان لا يحتاج مزيدًا من الدم، بل لحظة صدق، يبدأ فيها الاعتراف بالحقيقة، وإن كانت موجعة للبعض، والحقيقة الماثلة أن هذه الحرب لن تقود إلا للمزيد من الحروب.