الحركة الإسلاموية والعقوبات الأمريكية… الخيارات صفرية
بقلم: عثمان فضل الله
فرضت واشنطن أولى عقوباتها على السودان عام 1997، وقتها كان قادة الحركة الإسلامية يطلّون من نوافذ القصر الجمهوري وقد أوهموا الناس أنهم يحملون “مشروعًا حضاريًا”، لكن مع كل موجة عقوبات كانت البلاد تغرق أكثر في العزلة، ويزداد فقرها، وتتقلّص مساحات الأمل فيها، بينما كان الإسلامويون يوسّعون أرصدتهم، ويوزعون الغنائم داخل شبكة مغلقة لا ترى في السودان إلا حقل نفوذ ومزرعة خاصة، فمع كل تكبيرة تخرج من حناجرهم المتخمة تزداد حساباتهم في البنوك تضخمًا، ويتناقص الكلوركين في الصيدليات، وتنعدم الأدوية المنقذة للحياة بأقسام طوارئ المستشفيات.
نهب منظم
بلا شك عقوبات 1997، كانت شاملة على السودان، إذ طالت المؤسسات المالية، ومنعت الاستثمارات، وجمّدت الأرصدة، وأغلقت الباب أمام التحويلات والتقنيات، لكن النظام لم يتراجع. الإسلاميون، الذين ادّعوا الصمود والمبدئية، كانوا في الحقيقة يبنون شبكات تهريب، وواجهات مالية في ماليزيا وتركيا ودبي، بينما تركوا المواطن يواجه السوق السوداء وانهيار الجنيه والعزلة الدولية.
تقارير البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية وثّقت منذ 2005 كيف أن الإسلاميين أنشأوا دولة موازية داخل الدولة السودانية، عبر شركات أمنية، وواجهات مصرفية، وصناديق تمويل مرتبطة بأشخاص نافذين داخل المؤتمر الوطني.
تقرير لمنظمة الشفافية صدر في 2013 أشار إلى أن ما لا يقل عن 60% من عائدات النفط لم تدخل الموازنة العامة، بل تم تحويلها إلى أنشطة غير خاضعة للمراجعة.
وفي تقرير لمجموعة الأزمات الدولية عام 2020، وُصفت هذه الشبكة بأنها “اقتصاد خفي محكوم بالولاء التنظيمي، لا بالمصلحة الوطنية”، وأنها “جوهر استمرارية النظام رغم العقوبات.”
فالعقوبات، رغم شدتها، لم توقف هذا الاقتصاد الخفي في بداياته، لكنها عرقلت توسّعه، ودفعته للابتكار في التهريب والتحايل.
تحوّلت الدولة إلى واجهة تدار عبر شركات مثل “زادنا”، و”سودابت” و”الفيحاء”، و”فالي فيشن”، وطبقًا لتحقيق نشره الصحافي الاستقصائي عبد الرحمن الأمين، في موقع الراكوبة عام 2017، فإن منطقة جبل علي الحرة في دبي فقط، كانت تحتضن ما لا يقل عن 27 شركة تعمل للتحايل على العقوبات، يديرها كوادر تنظيمية تخضع مباشرة للجنة أمنية اقتصادية موازية، تسمى الدائرة الاقتصادية للمؤتمر الوطني، التي تعاقب عليها العديد من قادة الحركة الإسلامية، ولم تسند قط لأي من أولائك “القادمين” وإنما كانت حكرًا على “القدامى” الموثوق في ولائهم للتنظيم، وكان الهدف هو الاستفادة من موارد الدولة دون مساءلة، فيما يتحمل الشعب تبعات الحصار وتآكل الدعم والخدمات.
خيانة الداخل
وبعد ثلاثة عقود من الفشل والقمع والفساد، المغطى بمسحة من الدين والتدين الكاذب، اكتشف الشعب المغلوب على أمره ما يجري خلفه فتنادى في ثورة سلمية أطاحت بحكمهم، وبدأت البلاد تتعافى من رجسهم وتطهر من دنسهم وتدب الحياة في شراينها المتيبسة، وعوضًا عن أن يُراجع الإسلاميون خياراتهم بعد الثورة، اختاروا التحالف مع المؤسسة العسكرية، في محاولة للعودة عبر “البيادة”.
في الوقت الذي كانت فيه منظمات كـ”هيومن رايتس ووتش” توثّق الجرائم ضد المتظاهرين والانتهاكات في دارفور، كان رموز الحركة الإسلامية يُموّلون الإعلام الحربي، ويحشدون قواعدهم في الداخل والخارج لمعارضة أي اتفاق يُقصيهم، ويحيكون المؤمرات لإشعال الحرب التي نعيش مأساتها ونتجرع مرارتها حاليًا.
التقارير الحقوقية تشير بوضوح إلى أن الحركة لم تتخلَّ عن نفوذها، بل أعادت تشكيله بسرية أكبر، وحين اندلعت الحرب، ظهرت بصمتها في الخطاب، وفي التمويل، وفي تكوين التحالفات العسكرية، فتمكنت خلال العامين الماضيين من إدارة الحرب واقتصادها بشكل واضح، كأحد اللاعبين الخفيين الذين يديرون معركة البقاء عبر اقتصاد ملوّث بالدم والفساد. لم تكن هذه الحركة لاعب في مسرح العمليات فقط، بل كانت فاعلًا مركزيًا في إعادة تشكيل الاقتصاد لمصلحة الحرب، عبر شبكاتها التي لم تنقطع يومًا عن مؤسسات الدولة أو السوق الموازي. ففي الوقت الذي تقصف فيه الطائرات المدن، وتنهار الخدمات العامة، كانت الحركة الإسلامية تعيد ترتيب صفوفها وتمارس سلطتها الاقتصادية عبر أدوات قديمة أعيد إحياؤها بعنف جديد لتلعب دورًا جديدًا.
وفقًا لتقرير”فاينانشال تايمز” الصادر في ديسمبر 2023، فإن العديد من رجال الأعمال الذين كانوا مرتبطين بالنظام السابق استعادوا مواقعهم في السوق السوداني، بل سيطروا على التجارة في سلع حيوية كالوقود والغذاء والدواء، وأشار التقرير إلى أنّ “قيادات إسلامية سابقة تقوم بإدارة موارد مالية ضخمة عبر واجهات تجارية وأمنية محلية ودولية”. لم يكن ذلك عارضًا أو وليد الفوضى، بل جزءًا من عملية مدروسة أعادت خلالها الحركة الإسلامية الاستحواذ على مفاصل الدولة من بوابة الاقتصاد.
فالحركة الإسلامية لم تسعَ لدعم الجيش فقط، بل تجاوزت ذلك نحو هندسة اقتصاد حربي كامل تُوظَّف فيه الزكاة والذهب وميزانيات مؤسسات الدولة لصالح معركتها، التي هي بالضرورة ليست القضاء على الدعم السريع، وإنما العودة إلى السيطرة على البلاد واختطاف قرارها. فبنك السودان، الذي يفترض أن يكون مؤسسة قومية، تحوّل إلى خزنة خلفية تُستخدم لسحب السيولة لصالح لجان التعبئة وشراء الولاءات وتغذية جبهات القتال، بينما تُترك بقية البلاد لتغرق في الجوع والنزوح.
ويشير تقرير نشر في نيويورك تايمز في أبريل 2024 بوضوح إلى أن “عائدات الذهب السوداني تُهرّب بكثافة من مناطق سيطرة الجيش إلى الأسواق الخارجية، بغطاء من مسؤولين عسكريين ورجال أعمال إسلاميين”، في تأكيد على أن اقتصاد الحرب لا يمول فقط من الداخل، بل يُدار كشبكة تهريب دولية تشارك فيها عناصر من النظام السابق.
لم تتوقف الحركة الإسلامية عند حدود الدولة، بل استعادت أدواتها الدعوية والخيرية، لتغطي بها نشاطًا اقتصاديًا موازيًا يرتدي عباءة الدين. فالمساجد والمنابر أعيد توجيهها لجمع التبرعات باسم “نصرة القوات المسلحة”، بينما يتم استخدام هذه الأموال لشراء الوقود والذخيرة، وتعبئة المجتمعات الريفية للعمل في الزراعة الحربية. هذا “الاقتصاد الجهادي” الذي يتم الترويج له كلغة خلاص، ليس سوى قناع لنهب موارد الدولة وتبرير حرمان المواطنين من أبسط حقوقهم، في تكرار للمشهد ذاته الذي عاشه السودانيون من قبل بدعوى “محاربة الكفار” في جنوب السودان و”الغزو الصليبي” الآتي من خلف أشجار الأبنوس.
فالواضح لكل صاحب بصر فاحص وبصيرة أن الحركة الإسلامية لم تشارك في الحرب مثلها وبقية مكونات المجتمع التي انخرطت بدوافع مختلفة في هذه “المقتلة”، بل كانت وما زالت في قلب ماكينة تمويلها تقتات من الفوضى، وتُعيد تشكيل نفوذها الاقتصادي في ظل الدمار. إنها تُموّل نفسها للحرب بسرقة ذهب البلاد وأموال الزكاة، وتُعبّئ الفقراء باسم الدين، وتدير مؤسسات الدولة لا لصالح مشروع كما في السابق وإنما لصالح أفراد، فبينما يتحدث قادتها عن الجهاد، ويسوقون شبابًا غرًا إلى الموت، تنمو أرصدتهم في الخارج، ويُباع ذهب السودان في دبي وكمبالا وأسواق الظل.
ليس غريبًا أن تعود نفس الوجوه التي نهبت البلاد لثلاثين عامًا لتدير اقتصاد الحرب اليوم، فقد وفّرت لهم الحرب ما لم يوفره انقلاب 25 أكتوبر، غياب الرقابة، وانشغال العالم، وعودة الجيش إلى أحضانهم. وما يجري اليوم ليس مجرد معركة عسكرية بين طرفين، بل هو إعادة إنتاج لنظام النهب باسم الدولة، تُديره بعض قيادات الحركة الإسلامية بهدوء ومن وراء الكواليس، تدغدغ به مشاعر بعض المؤمنين بالمشروع من أعضائها، وتخدع به البسطاء الذين يمنحون عقولهم هدية لكل متحدث لبق وخطيب مفوه.
تأثير مزدوج
لكل ذلك نجدهم هم الأقل انزعاجًا من قرار الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة العقوبات الاقتصادية، وبلا شك لم يفت عليهم أن الأدوات التي تحايلوا بها على عقوبات 97 رغم نجاحها في ذلك الوقت إلا أنها أضعفت التنظيم بشكل كبير، ولكن هم الآن مجموعة بارونات لا يهمهم تنظيم ولا يهمهم وطن ولا إنسان، فالمشروع فد تحول إلى شركة تدر المال عبر الدم.
أثّرت العقوبات الأمريكية في العام 1997 سلبيًا على الاقتصاد السوداني بمجمله، وزادت عزلة البلاد، وأضعفت البنية التحتية للقطاعات الحيوية، مثل الصحة والطاقة، لكنها بحسب تقرير صادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في 2024، فإن تأثيرها الإيجابي الأبرز كان في “تجفيف البنية المالية للحركة الإسلامية، وكسر قدرتها على تمويل الأنشطة السياسية والعسكرية بغطاء”، ويضيف التقرير أن “العقوبات الأخيرة استهدفت الدائرة المالية المغلقة التي استخدمها الإسلاميون لعقود كأداة للسيطرة السياسية، ما قلّص قدرتهم على الاستمرار كفاعل منظّم ومتماسك”.
ورغم أن الحركة الإسلامية لا تزال تكابر وتحاول الظهور بأنها تنظيم قوي متماسك لكن بالتمعن في مساراتها منذ سقوط البشير، نجدها دخلت في طور احتضار سياسي لا رجعة فيه.
تشظي داخلي
باتت قيادتها لا تهتم لمشروعها السياسي والدعوي، وإنما تهتم بتوظيف كل ذلك لمصلحتها الشخصية، بعضهم الآن يحتمي بالجيش، وبعضهم يحاول التسلل إلى الشارع عبر خطاب مراوغ عن “الوطنية” و”الهوية”.
والمتابع لكواليس صناعة القرار في هذه الحرب يجدها قد قسّمتهم إلى شظايا، جعلت حتى قواعدهم التاريخية تشكك في القيادة والتنظيم.
الانقسامات لم تعد خلافات نظرية بل تحوّلت إلى صراع وجود
الجناح المتشدد – ويشمل كثيرًا من بقايا المؤمنين بالمشروع – رأى في الحرب فرصة ذهبية لاستعادة الحكم والعودة إلى أحلام الدولة الإسلامية الرسالية.
وجناح خارجي يتنقّل بين أسطنبول والدوحة يحاول إعادة إنتاج المشروع بصياغات عصرية، لكن دون قاعدة شعبية، أما الجناح “الإصلاحي” فاختفى في ضجيج الحرب، وانكشفت هشاشته حين لم يجد له موطئ قدم بين المتشددين والانتهازيين.
وبالرغم من أنهم جميعًا اتفقت ردود أفعالهم تجاه العقوبات التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية بالتهوين منها إلا أن ذلك عضد أمرين، الأول عدم اكتراث منسوبي هذا التنظيم بما يحيق بالشعب السوداني، والأمر الآخر أنهم لا يزالون في نظر العالم المجموعة ذاتها المتشددة المنبوذة، التي لا مكان لها في المشهد.
لم تكن العقوبات انتقامًا عشوائيًا كما يدّعي الإسلاميون، بل كانت – في حالات كثيرة – ردًا مباشرًا على تورطهم في قمع، ونهب، وتهريب موارد الدولة، وثالثة الأثافي هي التقارير الأخيرة عن استخدام أسلحة كيماوية في حرب تدور وسط المواطنين في المدن، ومن نافلة القول إن على الجهات الصحية إعادة النظر في الجوائح المنتشرة وسط المواطنين، وعدم الركون إلى التفسيرات السهلة بخصوص النزلات المعوية التي اجتاحت العاصمة وعدد من المناطق الأخرى.
لا مراجعة ولا ندم
بعد كل هذا، لم نرَ ولن نرى مراجعة واحدة أو اعتراف بالخطأ، لا تراجع عن الكارثة، لا اعتذار للناس الذين دمّرت حياتهم. ما نراه هو محاولات للتنكر، أو التخفيف، أو العودة عبر قنوات “المصالحة” و”الوحدة الوطنية”، لكن ذاكرة الناس لم تُمسح، والحرب لم تُنسِهم من باعهم وسرقهم وأذلهم باسم الله والدين.
وختامًا نقول: نعم العقوبات تكشف، تفضح، تضعف، لكنها وحدها لا تكفي، فلابد من تفعيل مبدأ المحاسبة الوطنية، وإعادة بناء الدولة على أسس شفافة، ونزع الأيديولوجيا من الأيادي المفوضة بحمل السلاح، تلك هي شروط النجاة ولا غيرها، ويجب أن نضعها نصب أعيننا منذ الآن.
أما الحركة الإسلامية، فهي اليوم اسم بلا مشروع، وتاريخ بلا مستقبل، مشروع منهار، وقيادات متورطة في الحرب والدمار، وغارقة حتى أخمص قدميها في دماء الشعب، جماعة تتآكل من الداخل، لا تعبأ بما حلّ بالشعب من دمار وضنك وجوع، ولاء أفرادها لا للوطن ولا حتى للتنظيم وإنما للمصلحة الذاتية، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، فالحركة بجميع تياراتها المتشدد والانتهازي والإصلاحي الغائب وسط ضجيج الحرب باتت خياراتها صفرية، والخيارات الصفرية بلا شك تقود إلى نهايات مأساوية.