حكاية من بيئتي

وِتِدْ حميدان

 

يتناول الكاتب ضمن سلسلة “حكاية من بيئتي”، حكاية رمزية عن (حميدان ود اللمين)، طفل هامشي نشأ في كنف الإقصاء والخوف، وانتهت به الظروف إلى أن يكون رمزًا شعبيًا للخوف والرغبة في إثبات الذات، من خلال حادثة غرس وتد وسط المقابر، تحوّلت إلى مثل دارج (وتد حميدان) يدل على التناقض بين النية والنتيجة.

يربط التقرير هذه الحكاية الشعبية بالسياق السوداني المعاصر، حيث تُدفن الجثث على عجل في ساحات البيوت أو تُترك في العراء في ظل الحرب المستمرة، مما يسلّط الضوء على رُهاب المقابر والدفن، لا بوصفه خوفًا فرديًا فحسب، بل كأزمة جماعية ذات أبعاد نفسية وبيئية وسياسية.

يحمل النص أبعادًا رمزية عميقة تربط بين الهامش، والوصمة، والرعب الشعبي، والتاريخ المعاصر المأساوي للسودان. طريقة الربط بين قصة (حميدان) وواقع الحرب والموت الجماعي عبقرية، وتفتح الباب لتساؤلات مؤلمة بصوت سردي شاعري وواقعي في آن.

ويتساءل في ختامه إن كان من أشعلوا الحرب ذاتهم قد غرسوا أوتادًا أرادوا بها تثبيت وطن، فجاؤوا بعكسه تمامًا… كما فعل (حميدان).

 

محمد أحمد الفيلابي

 

 

كان قدر (حميدان ود اللمين اللّخدر) الملقب بـ(فِكْ) أن ينشأ في بيوت أحد أعيان القرية كـ(كَرِي) (1)، مستطعماً مُر الدونية، ومستبطناً الإقصاء في أقصى حدوده. يقضي النهار سارحاً بالأغنام، جامعاً لحطب الوقود. يلاعب ليلاً الصبية في مثل عمره، لكنهم يحظون بالتعليم، وأن كل منهم يعود إلى دفء أسرته، بينما ينتظره (عنقريب) في طرف الحوش كل أيام الصيف، أو في ركن مخزن الغلال شتاء وخريفاً. يصحو على التعليمات والتهديد بالثبور في حال قصّر في مهامه. 

حُرم (حميدان) من الاستمتاع بطفولته وانغرست في أعماقه بذرة الخوف مِن كل مَنْ، وما حوله من المواقف غير المألوفة، والأشخاص غير المعروفين. واحتل (البعّاتي) (2) مكانة كبيرة في مخاوفه وهواجسه، وقد ارتبط لديه، مثلما هو عند الكثيرين بعبور المقابر الفاصلة بين القرية وبيوتات أهل (حميدان) من العرب الرُحّل. البيوتات التي كانت تشيّد مؤقتاً أيام الجفاف، ريثما يغشى المطر الوديان البعيدة، لتعود أسرته إلى هناك بدونه. وقد أضحت مستدامة بعد موجة الجفاف التي ضربت النواحي بداية الثمانينات.

شكّلت تلك البيوتات قرية تحدّث عن تغيير جديد في حياة هؤلاء الذين ما عرفوا الاستقرار، فقد كانت حياتهم حراك دائم بين الوديان والنهر. والآن لم تعد قطعانهم تجد ما يكفيها من العشب، فمات أكثرها، وهربوا بما تبقى لديهم ليشيدوا قرية يكره (حميدان) أن يمشي إليها عابراً المقابر، ويفضل أن يلتقي بأفراد أسرته بين المزارع، حيث يعملون كعمال زراعيين (رجالاً ونساء)، أو وسط الغابة يجمعون ساقط الحطب، ويرعون ما تبقى من أغنامهم. أو يعملون في بيوت القرية تلك الأعمال التي لا تتطلب مهارات ما عرفوها كالمساعدة في تشييد المباني، أو تلييسها بالروث، أو حفر الآبار، أو حتى تكسير كتل الحطب.

كانت الشمس ترسل الأشعة الأولي معلنة ساعة خروجها من الأفق الشرقي، حين بدأت الحياة تدب في القرية.

ــ فِكْ.

التفت ليتبيّن وسط غبار الأغنام الساعية نحو الغابة أحد أبناء عمومته مهرولاً نحوه. وبعد السلام سأله وصفاً لأحد بيوت القرية، لأنه ذاهب إلى هناك، حيث سيعمل لديهم (كَرِي).

(فِك) لقب حل محل الاسم منذ تلك الحكاية التي تشبه آلاف الحكايات على طول البلاد وعرضها. تعوده حتى بات لا يلتفت إلى منادٍ إلا حين ينطق الحرفين (المكسور والساكن). لم تكتف الحكاية باستحداث اللقب، إذ تولّدت عنها مقولة تشبه الأمثال السائرة (وِتِد حميدان) (3).

في تلك الليلة الشتوية المقمرة والصِبية يتسامرون وسط البيوت أول المساء، تركزت الأحاديث على (البعاتي)، ليشارك كل منهم بقصة سمعها هنا أو هناك، فيما عدا (حميدان) الذي زاد من قرفصته في ثوب الدمورية (4) الملازم له أيام الشتاء، ليلحظ أحد الصبية ذلك.

ــ (حميدان) ده الوحيد فينا اللا شاف البعاتي، ولا بخاف منو.

سقط التعليق وسطهم محدثاً فرقعة تشي بأنهم كانوا يعدون العُدة لأمر ما.

تم تنفيذ الأمر كما هو مخطط له. إذ سيق المسكين إلى قبول تحدي غرس وتد وسط المقابر. 

قرر في نفسه وضع حدٍ لتنمُّرهم وتحرشاتهم. أمسك بـ(الوتد) والمطرقة وفي نفسه من الرهبة ما يماثل رغبته الحقيقية في قتل خوفه إلى الأبد، وألا ينسحب من الموقف كما كان يفعل قبلاً. ومضى، وهو يردد في نفسه ما يعني أنه إما أن يكون (حميدان) أو لا يكون. حينها كانت الكينونة قد ارتبطت بأن يجد الجميع الوتد مغروساً في الصباح بجانب قبر العمدة المميز ببنايته الأسمنية ولونها الأبيض، ما يجعل الوصول اليها تحت ضوء القمر سهلاً. وهناك أقعي وثبّت الوتد في عجالة و(لهوجة) (5) دون أن يدرك أنه ثبّته فوق طرف ثوبة، وتحت أنظار الصبية الذين تبعوه ليراقبوا عن كثب، فسمعوا صرخاته…

ــ فِك… فِك.. فِك.

وحين أحس أن من يمسكه لا يود أن يفارقه، لم يجد بداً من التخلي عن ثوبه مثبتاً في الأرض، ومبللاً، ليهرول نحو بيوت أسرته هذه المرة. ولم يعد إلى القرية إلا بعد أيام انتشرت فيها الحكاية في كتاب القرية الجهري، وفي الكتاب السري تجد الصفحة التي تحدّث عن بلل الثوب. وشقّت مقولة جديدة طريقها إلى قاموس التداول اليومي.. (وِتِد حميدان)، في إشارة إلى الفعل يراد به إثبات شيء ما، فيأتي بنقيضه.

ليس (حميدان) أو (فك) وحده الذي يخاف دخول المقابر ليلاً، إذ أن قائمة من يبقون خارج المقابر حين دفن الموتى ليلاً ضمّت عدداً من كبار رجال القرية، ويشار لهم سراً بـ(رفاقة حميدان) (6)، تجدهم لا يشاركون ي مراسم الدفن إلا بما أُمر به (اتبع جنازته)، يبقون بعيداً تحت غطاء (فرض الكفاية).

الخوف من المقابر قديم قدم الإنسانية، تغذّيه القصص الخيالية وأساطير استعادة الوعي بعد الدفن، وتراكم الحكايات المختلفة، حتى ظن البعض أن في الأمر (يقين). وذلك مثلما ترسخ إعتقاد أن الجن يسكنون الأحراش والصحارى والبيوت الخالية، وفي الخرابات، وبيوت الخلاء (المراحيض)، وفي مواضع المقابر. ويخصون من بين الأشجار شجرة اللالوب (الهجليج) القائمة في البيوت الخالية من السكان. وفي هذا ظلم بيئي لا يدانيه سوى ظلم النعامة بالخوف حين دفنها لرأسها في الرمال. فالحقيقة تقول إنها ترهف السمع لمصدر الصوت، فهي تعلم (بالفطرة) أن الأجسام الصلبة هي موصل جيد للصوت أكثر من الهواء، لذا فهي تضع رأسها في الرمال للتعرّف على أقرب مصدر للخطر، وأقرب مصدر للماء. كما أنها تضع بيضها في حفرة تقوم بحفرها في بطن الأرض، وتقوم من آن لآخر بإدخال رأسها في هذه الحفرة للاطمئنان على البيض.

يطلق مصطلح (رهاب المقابر) على الخوف غير الطبيعي، والمستمر من المقابر، كما يقول علماء النفس. وهو يلازم البعض حتى يأتي الواحد منهم إليها محمولاً على الأعناق. يتقاطع معه مفهوم (رهاب الوأد) (7)، ومنه جاء المثل (دفن الليل أب كراعاً برة) الذي يشير إلى عدم إنجاز العمل بالصورة المثلي كما حدث في العديد من الحالات في الحرب الدائرة الآن. وما قد يترتب عليها من عواقب بيئية.

هل ينطبق مصطلح (رهاب المقابر) على مدينة بحجم العاصمة السودانية شهدت قتالاً لأكثر من عامين، انتشرت فيه الجثث في الشوارع، ودُفن بعضُها على عجل في باحات البيوت، وتحت الحوائط، وترك بعضها في العراء للكلاب والفئران حتى أضحت عظاماً؟

فقد اضطر البعض لمواراة الموتى ثرى منازلهم، لأن في الخروج لدفنهم بالمقابر التي لا تبعد كثيراً مخاطر جمّة، إذ يجعلهم التحرك في ظل الاشتباكات العنيفة في مرمى النيران. وخوفاً من تنامي المخاطر البيئية بسبب تحلّل الجثث في الطرقات، ظهرت حالات الدفن السطحي الخاطئ، دون اتباع البروتوكولات اللازمة. 

لم تقتصر مخاوف تفشي الأوبئة والكوارث البيئية جراء تحلّل الجثث على الخرطوم وحدها. فقد شهدت العديد من المدن والقرى حالات مماثلة. وقد انتشرت حكاية حرق الجثث بواسطة الجنود، الذين كان بعضهم يدخن السجائر، ويمشي فوق الجثث المتفحمة في مدينة الجنينة. كما يشمل الخوف المشي فوق أنقاض البيوت المتهدّمة خوف أن يكون تحتها المزيد من الجثث.

هل ينطبق المثل (وِتِد حميدان) على من أشعلوا حرب السودان؟

وهل كان (حميدان) سينضم إلى أحد الفصائل المتقاتلة بحثاً عن كينونة اندفت تحت سخرية الأقران، وإقصاء الكبار، ورهاب المقابر؟

ونلتقي في حكاية أخري من بيئتي..

الهوامش:

أصلها في اللغة من الفعل (يكتري) بمعنى يستأجر، فهو (مُكترى)، أي مستأجر، أجير. وقد أصبحت في الدارجية (كَرِي)، وتطلق على من يقوم بخدمة الآخرين في مقابل. أما الصبية فيمنح المقابل لآبائهم، أو القائمين على أمرهم ممن يعيشون على هامش الأرياف.

البعاتي في الذاكرة الشعبية هو عودة الميت إلى الحياة متخفياً، الأمر الذي لا علاقة له بالعلم ولا الدين، فقط الأساطير والحكايات الشعبية، وقد اشتقت من الفعل (بُعِثَ). ولا علاقة للخرافة بالسودان، إذ نجدها تنتشر في كل العالم متخذة أسماء مغايرة.

الوتد ما رُز – أو غُرس وثُبّت في الحائط أو الأرض من خشب وغيره كـ(وتد الخيمة). ومنه الجبال أوتاد الأرض، ويسمي الوتد المعدني ذي الحلقة الدائرية الذي تربط إليه الحيوانات (بربندي)، وفي المثل (يدقوا في البربندي والحمار في شندي). في الاشارة للاستعداد لما هو آتٍ.

الدمورية: قماش منسوج من خيوط القطن، خشن الملمس وبلَونٍ أبيض محمر، كان منتشراً بالسودان حين كان مشروع الجزيرة ينتج القطن، ويحلجه، ومصانع النسيج تعمل، وتطعم آلاف الأسر.

لهوج عملَه: أهمله، فعله على عجل وبلا إحكام، لم يتقنه ولم يحكمه.

تطلق (رفاقة) على الجماعَة المترافقينَ في عمل ما، أو صفة ما. وحين يتم عطفها على إسم معين (سخرية) يذهب الجميع إلى المنقصة المرتبطة بالإسم.

رهاب الدفن حياً أو رهاب الوأد هو خوف أن يُدفن الشخص وهو ما يزال على قيد الحياة، نتيجةً لخطأ أو اعتقاد أنه فارق الحياة.

 

Exit mobile version