في 3 من يونيو 2019، تحولت الحياة في ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش إلى “كابوس”. قُتل المعتصمون بدم بارد، وأُلقيت جثث بعضهم في نهر النيل.
احترقت الخيام، وبقيت لافتة معلقة كتب عليها: “كل عام وأنتم بخير”، كتبها أصحابها انتظارًا للعيد، للمفارقة، كانت الجملة نفسها، ولكن بلغة أخرى، يرددها رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق عبد الفتاح البرهان، عبر شاشات التلفاز، معلنًا إلغاء الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير، ممثل الثورة التي أسقطت الجنرال عمر البشير.
ما جرى أمام القيادة العامة بالخرطوم، تكرر في مناطق أخرى من السودان كانت تحتضن اعتصامات الثوار. خرج يومها الجنرال شمس الدين الكباشي ليقول عبارته الشهيرة: “حدث ما حدث”.لكن الحقيقة أن ما حدث يومها كان قرارًا من القيادات العسكرية بفض الاعتصام بالقوة، إذ اندفعت جحافل الجنود المدججين بالسلاح إلى الميدان. لم يكن هدفهم إنهاء الاعتصام فحسب، بل سحق رمزيته، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وقعت مجازر من قتل، اغتصاب، سرقة، إذلال.
وفي تلك اللحظة، رسم مشهد “عار القيادة العامة”، حين أغلقت أبواب المؤسسة العسكرية أمام شعب احتمى بحرمتها وردد بشجاعة: “شعب واحد، جيش واحد”.
لن تنسى من ذاكرة تلك الجريمة شهادة والد الشهيد “مطر”، حين قال: “المتهم معروف”. وأحدهم قال: “حدث ما حدث”، وآخر ظهر في التلفزيون يلغي الاتفاق، وثالث جلب اللوادر لتنظيف منطقة القيادة، ورابع جلب البويات لمسح الجداريات.وأيضًا بتسأل المتهم منو؟بهذه الكلمات، حمل الأب المجلس العسكري الانتقالي، أو ما يمكن تسميته بتحالف الجيش والدعم السريع، مسؤولية المجزرة.مرت ست سنوات. تشكلت لجنة تحقيق، لكن نتائجها لم تعلن، إذ قطع عليها الطريق بانقلاب لاحق، واللافت أن رئيس اللجنة، نبيل أديب، تحول لاحقًا إلى داعم لتحالف الانقلابيين المدنيين والعسكريين.رغم أن الشارع حمل قوات الدعم السريع المسؤولية، مرددًا: “قتلونا مندسين، لوحاتهم ق دال سين”، فإن فرجة الجيش على مواطنيه يقتلون، كانت أكثر إيلامًا من الرصاص في حد ذاته.
ارتج ميدان الاعتصام صباح المجزرة، برعب المعتصمين، تداخلت أصوات الرصاص مع الهتافات، لم ينجُ أحد. ومن بين هذا الدمار، ارتفع صوت أحدهم قائلاً: “من كان يؤمن بالاعتصام، فإن الاعتصام قد فضّ، ومن كان يؤمن بالثورة، فالثورة حية لا تموت”.أزيلت الخيام من أمام القيادة، لكنها سرعان ما نصبت من جديد في كل أرجاء الوطن، لم يتراجع “الديسمبريون” عن مطلبهم الأساسي: السلطة المدنية. وتحت الضغط الشعبي، اضطر المجلس العسكري للتوقيع على وثيقة الحكم المدني، قبل أن ينقلب عليها لاحقًا.في الذكرى السادسة، لا يزال الجميع يتذكر الشهيد “عباس فرح” ومقتله البطولي في “ترسه”، ويتذكرون أيضًا التروس التي شيدها الثوار دفاعًا عن حلمهم، وعبارتهم الخالدة: “حكم العسكر ما بتشكر”.لا سلام ممكن في ظل حكم المليشيات، كما ردّدت الشوارع: “الجنجويد ينحل، وما في مليشيا بتحكم دولة”.
تبدو العدالة التي يطالب بها ذوو الشهداء مستحيلة، لأن من قتل الأبناء هو نفسه من ترحم عليهم وتقلد أوسمة السيادة.وها هم، بعد ستة أعوام، يعودون ليتقاتلوا في المكان نفسه الذي سالت فيه دماء دعاة السلمية.عادت القيادة العامة في حرب أبريل، لتتلوى تحت القصف، لكن لو استمعت لصوت السلمية، لربما كان بالإمكان تصحيح المسار، أو على الأقل تجنب هذه الحرب.
يتذكر “الديسمبريون” مقولة الشهيد كشة:
“لا توجد سلطة مدنية تطلب من العسكر”.
واليوم، يمنح العسكر البلاد موتًا جديدًا، مستمرين في عبثهم بأرواح الناس باسم “الكرامة”و”الديمقراطية”.
استباقًا للذكرى السادسة للمجزرة، أعلن تحالف السلطة الفعلية تعيين كامل إدريس رئيسًا جديدًا لمجلس الوزراء، في محاولة لإضفاء صبغة مدنية على واقع عسكري دموي. أقسم الرجل الولاء لجمهورية السودان، وتعهد بإعادة بناء الدولة على أسس “الحرية، السلام، العدالة”، مضيفًا “الكرامة”، لكنه لم يذكر الحرب التي تحرق البلاد، ولم يتحدث عن العدالة، أو محاسبة من ارتكب المجازر.في ذكرى فض اعتصامهم وتدمير مدينتهم الفاضلة، يردد الديسمبريون:
“نحنا ما نسينا المجزرة، لا الدمازين اتمحت، لا قطار عطبرة”، و”نحنا ح ندخل بري من زقاق المقبرة”.ويكملون: “سنقبر حربكم، طال الزمن أو قصر، لا أحد سيفلت من العقاب، طال الزمن أو قصر، سينتصر السودانيون لحياتهم، وستجرجر الحرب أذيال الهزيمة”.الناجي من الحرب لن يعبد خنجرًا، بل سيغرس هتافه في آذان من صنعوها: “العسكر للثكنات، والمليشيات تنحل”.