يوسف عزت
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض، والحرب جزء من تاريخه. يُروى في الأساطير المرتبطة بوجود أول البشر على الأرض أن هابيل قتل قابيل، لتبدأ سلسلة طويلة من قتل الإنسان لأخيه الإنسان، ولم تتوقف يومًا. يكفي أن نتصفح نشرات الأخبار عبر التاريخ الحديث لنجد الحرب حاضرة دومًا في صدر العناوين، من الراديو إلى التلفزيون. وفي السودان، لم تكن الحروب حالة استثنائية، بل قاعدة.
منذ الاستقلال، لم تهدأ الحروب في البلاد: حروب بين الدولة والمتمردين، بين القبائل، بل حتى بين أفراد في أسواق “الله أكبر”. اعتاد الناس على أخبار الاشتباكات حتى أصبحت خلفية مصاحبة للحياة اليومية.
ما حدث في 15 أبريل 2023 كان مختلفًا. حرب شاملة، شديدة التعقيد، ومسرحها عاصمة البلاد، الأكبر والأقدم في أفريقيا والمنطقة العربية، أربكت كل التوصيفات. لم تعد المسألة صراعًا بين دولة ومعارضة، بل أصبحت مواجهة بين كيانات داخل الدولة نفسها: جيش رسمي، وقوة شبه نظامية لها قدر من الاستقلالية، وأجهزة أمن مسيّسة، ومجتمع ممزق.
المفارقة أن الأطراف المتحاربة اليوم كانوا يومًا شركاء في السلطة نفسها، وشركاء في قمع المتمردين، ثم أصبح بعضهم يقاتل باسم الثورة التي طالما حوربت، بالانقلاب عليها، ومن ثم بالبندقية التي اعتمدت شعارًا سوقيًا فاسقًا في نظرنا، ويجب أن يكون كذلك في نظر قوى الإسلام السياسي التي تدعي الطهر (بل بس)، الذي يعني في أجمل صوره ممارسة الجنس. ونحن نهذّب المعاني السوقية لأننا مهذبون بالميلاد. الشعار نفسه وُجه إلى صدور جنود الدعم السريع، الذين وضعت قيادتهم نفسها في تقاطعات نعرف مسبقًا أنها غير حقيقية.
ولا نستبعد جلوس من يسمون أنفسهم بقوى الثورة مع مجموعة “بل بس” والتفاوض، وقد حدث ذلك في ملتقى القاهرة العام الماضي، وفي تاريخ كل المعارضات منذ الجبهة الوطنية والتجمع الوطني. وهو ديدن قوى المساومة التي لم تُسقط أي نظام بالثورة المسلحة.
حتى استقلال البلاد في 1956 جاء بدون كفاح أو نضال حقيقي يخلّف بطلًا قوميًا نمسك بتلابيبه إذا ما ضعفنا أو وهن نضالنا في الطريق من أجل بناء سودان حلمنا به. بل كانت الأسماء التي ورثت السلطة – في معظمها – متآمرة مع المستعمر، وجدت في يدها علمًا ولا تعلم ما تفعل به، فأوردتنا الهلاك.
المواطن السوداني، وسط هذا المشهد العبثي، لا يهمه من ينتصر أو يُهزم. كل ما يريده أن يعود إلى منزله، ينام بأمان، ويمارس حياته اليومية المرهقة دون رعب. وهي أمنية بسيطة، لكنها بعيدة المنال، في ظل حرب تجاوزت قدرتها على التدمير كل الحسابات.
في جوهرها، هذه الحرب ليست سوى صراع على السلطة. قوى الثورة تسعى لاستعادة شرعيتها استنادًا إلى شعبية الثورة المصنوعة، فيما ترى التيارات الإسلامية أن أدواتها الحقيقية هي المؤسسات الأمنية والعسكرية، لا صناديق الاقتراع.
قوات الدعم السريع، التي تأسست في ظل نظام الإنقاذ، تحوّلت إلى لاعب رئيسي في المشهد، بعد أن تمت شرعنتها بالقانون لحماية النظام. انحيازها للثورة لم يكن ضمن حسابات الذين خططوا للثورة وقطفوا ثمار مواكبها باعتبارهم القوى الممثلة والحاضنة لتلك المواكب. ووجدت قيادة الدعم السريع نفسها في وضع تجهله تمامًا، وتجهل حقيقة اللاعبين فيه، ودرجة تمسكهم بالشعارات التي يرفعونها، وتجهل السياسة بشكل عام، والسودانية الآسنة بشكل خاص.
القوى المدنية التي لم تستبشر بهذا الانحياز، كانت تريد الجيش كمؤسسة في الذاكرة، واستعادة تجربة انتفاضة أبريل، في تجاهل تام للتحولات الكبيرة التي أحدثها نظام الإسلاميين في مؤسسات الدولة. وكانت القوى المدنية – باعتصامها أمام القيادة، تحت اللافتات والدبابير اللامعة – تراهن أن الجيش وتوابعه ما يزال مؤسسة يمكن الرهان عليها. وخُذلت بفض الاعتصام، فقبلت بشراكة لم تُحسب كلفتها بدقة. فالشراكة مع بنادق لا تؤمن بالديمقراطية هي انتحار، وأحيانًا شهوة السلطة تقود صاحبها إلى المشنقة. وقد دفعت القوى المدنية كلفة ذلك سجونًا، بينما دفعت قيادة الدعم السريع وجنودها دمًا غاليًا، ودُفعت البلاد – في كل شبر منها – إلى تمزق وحرب، لا أحد اليوم يعلم كيف ومتى تنتهي.
لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أن تصل الأمور إلى مواجهة بهذا الحجم. في البداية، كانت مجرد خلافات داخلية في المؤسسة العسكرية. وجميعنا، ومهما كانت درجة قربنا من العسكريين، لا نعلم بالضبط سبب الخلاف الحاد بين قيادة الدعم السريع والجيش، الذي تحوّل إلى حرب شاملة.
كانت هناك تقارير تصل إلى المجتمع الدولي من قيادة الجيش والأجهزة الأمنية باستمرار، تحذر من نوايا الدعم السريع وتحضيره لانقلاب. وهي شكوى غريبة من مؤسسة عسكرية وطنية تكتب تقاريرها الدورية عن الحالة الأمنية في البلد للبعثات الدبلوماسية. وقد يكون ذلك عرفًا دبلوماسيًا، لكن أن تتضمن تلك التقارير الكشف عن خلافات داخل المؤسسة العسكرية، فقد كان ذلك يثير الاستغراب. وشخصيًا اطلعتُ عليها، ونوقشت معي، لمناقشتها مع قيادة الدعم السريع، وهو أمر كان طعمه مرًا.
وربما، في المقابل، كانت هناك محاولات لاستغلال هذا الانقسام للضغط على قيادة الدعم السريع لدعم عودة مدنية، بالتحالف مع القوى المدعومة من هذه البعثات، واستخدام الخلافات داخل المؤسسة العسكرية كمدخل لاستعادة المسار المسمى “ديمقراطيًا مدنيًا”، الذي يجهل الكثيرون في القرى والأرياف طبيعته، ولا يثقون في أنه سيعالج قضاياهم المزمنة.
القوى المدنية رأت في الدعم السريع بعد الانقلاب رافعة سياسية، والدعم السريع رأى فيها غطاءً لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية. أما الجيش، فظل يتباهى بتراثه العسكري، الذي لم يُمكنه من احتواء خلاف مع قوة عسكرية صنعها بنفسه، ودربها، وتخضع لإمرته. واليوم يغرق في حرب لا يملك خطة حقيقية للخروج منها، ويفرخ كل يوم المزيد من المليشيات التي لا نعرف متى يعود للتخلص منها.
الهتاف الشهير “مدنيااااو” كان تعبيرًا شعبيًا عن حلم سوداني أصيل، لكنه – في الثورة – لم يكن مشروعًا واضحًا. ما المقصود بالمدنية؟ هل هي سيطرة النخب الحزبية؟ أم مجرد إقصاء للعسكر؟ الواقع أن القوى التي تصدرت المشهد بعد الثورة لم تكن مستعدة لحكم بلد بهذا التعقيد، لتمزقها بسبب الاستهداف الطويل خلال سنوات الإنقاذ، ولعدم تجانسها في تحالف واسع لا يربط بين قواه غير المصالح والمعرفة الشخصية، وضعف كوادره من حديثي التخرج من الجامعات بعقلية طلابية حالمة، أو منفيين عاشوا في بلدان غربية تختلف قواعد السياسة فيها عن الممارسة في بلادنا.
كما أنها تجاهلت قوى المجتمع الحقيقي، مثل الطرق الصوفية، والمنظمات المستقلة، والمكونات الاجتماعية المتجذرة، وتعاملت مع البلاد بعقل نخبوي معزول، لا يفهم طبيعة هذا الشعب ومكوناته الفريدة.
من المثير للاستغراب أن البعض يصور ما حدث في الخرطوم في الحرب الراهنة وكأنه الكارثة الأكبر، متجاهلين ما جرى في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق. آلاف القرى أُحرقت، ملايين النازحين يعيشون في المعسكرات منذ عقدين، والجيش متورط في كل الحروب، وفي تأسيس المليشيات منذ البداية. ويجب فهم أن ما حدث يوم 15 أبريل 2023 ليس بداية، بل ذروة لمسار دموي طويل.
الحرب اليوم أخذت بعدًا اجتماعيًا وانتقاميًا. التصعيد سيستمر ما لم يتم التعامل معها بموضوعية. فكرة أن دولة يمكن أن تُحكم بالبندقية، فكرة ثبت فشلها مرارًا، ولا أحد سيكون آمنًا في وطن يُدار بهذه العقلية.
المسؤولية جماعية، لكن من برر للحرب ورفض التسويات، عليه أن يتحمل تبعاتها أمام الشعب والتاريخ.
حين تفيق القوى السياسية – إن وُجد فيها مفكرون – والمجتمعات من صدمة الحرب، فستحتاج إلى مراجعة شاملة. لا باللوم المتبادل، بل بالاعتراف بالأخطاء. ولا مفر من المساءلة، ومن فهم أن حل الأزمة لن يكون بإقصاء طرف، أو بالتجريم، بل بمصارحة مؤلمة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع.