عثمان يوسف خليل
مقدمة: حين تصبح العودة حلماً محفوفاً بالركام والأسئلة
رغم الدمار، ورائحة البارود التي لم تبرح بعد سماء الخرطوم، بدأ آلاف السودانيين يشقّون طريق العودة إلى ديار هجروها تحت وطأة الحرب. مشهد العودة الطوعية يتكرر في أكثر من منطقة، لكنه يثير من الأسئلة أكثر مما يبعث على الاطمئنان. هل يعود الناس حقًا إلى بيوتهم، أم إلى ركام الذكريات؟ وهل تهيأت البلاد فعلاً لاستقبال من شردتهم نيران الحرب؟
في هذا المقال سوف نحاول قدر المستطاع تفكيك مشهد العودة الطوعية: دوافعها، تحدياتها، شروط نجاحها، والمسؤوليات التي تقع على عاتق الجميع لضمان ألا تتحول هذه العودة إلى صدمة ثانية.
المتن:
كُتب على أهل السودان أن يعيشوا حرباً لم يتوقعوها، اجتاحت مدنهم وقراهم، فهدمت وفرّقت وبدّدت الأحلام. في غضون شهور، أصبحت الخرطوم مدينة أشباح، وتحول ملايين السودانيين إلى نازحين في الداخل ولاجئين في دول الجوار. الكل كان ينتظر العودة، ولكن لم يتخيّل أحد أن تكون العودة بهذه السرعة، وبهذا القدر من الغموض.
مع استعادة الجيش السيطرة على أجزاء من العاصمة ومناطق أخرى، بدأت موجات العودة تتشكل تلقائيًا، دون إعلان رسمي أو خطة واضحة. عاد بعض الناس بدافع الشوق، أو لأنهم لم يجدوا بديلاً، أو لأنهم صدّقوا أن الحرب قد وضعت أوزارها.
لكن، ماذا وجدوا عند عودتهم؟
– وجدوا منازلهم منهوبة أو مهدّمة، أو يسكنها آخرون.
– وجدوا أحياءهم بلا ماء، ولا كهرباء، ولا طرق. ولا طعام ولا فراش.. وحالهم تشكي ولمن المشتكى..
– وجدوا الذكريات، نعم، لكنهم لم يجدوا الحياة التي تركوها خلفهم.
– فقدوا نفوساً هي بضعةٌ منهم.
الأسئلة الحارقة: هل هذه عودة، أم مجازفة؟
– كيف عاد هؤلاء قبل أن تُعلن الجهات الرسمية أن مناطقهم آمنة؟
– هل هناك خطة وطنية شاملة تؤطر للعودة وتضمن سلامتها؟
– ما هي الضمانات؟ ومن يوفّرها؟ ومن يتحمّل المسؤولية؟
الضمانات الضرورية لعودة آمنة:
لكي تكون العودة الطوعية ممكنة وآمنة، لا بد من:
- إعلان رسمي بالمناطق الآمنة، مصحوب بخريطة واضحة للمخاطر.
- إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة، التي تهدد الحياة في المناطق المستعادة.
- تأمين وجود شرطة وقوات نظامية لحفظ النظام ومنع النهب والانتقام.
- توفير مراكز استقبال مؤقتة للعائدين بلا مأوى.
- تقديم خدمات صحية عاجلة ومياه نظيفة وغذاء كافٍ.
البنية التحتية… حلم معلق
البنية التحتية في كثير من المناطق مدمّرة، ولا يمكن أن تستوعب العائدين دون تدخل سريع:
– الطرق مقطوعة.
– المدارس مدمّرة.
– المراكز الصحية مهجورة.
– شبكات الكهرباء والمياه معطلة.
هل من خطة وطنية للتعافي المبكر؟ ومن سيموّل إعادة الإعمار؟
المنظمات الإنسانية: بين الحضور والغياب
رغم الجهود الفردية من بعض المبادرات والمنظمات، إلا أن المساعدات لا تزال غير كافية. يحتاج العائدون إلى دعم فوري ومنظم:
– غذاء، دواء، أغطية، ومياه صالحة للشرب.
– دعم نفسي، خاصة للأطفال والنساء.
– رصد الاحتياجات المتغيرة والتنسيق مع المجتمع المحلي.
العودة ليست فقط إلى المكان، بل إلى ما بعد الألم
العودة لا تعني مجرد الوصول إلى البيت، بل تعني استعادة الإحساس بالحياة. لذلك، فإن برامج المصالحة المجتمعية وإعادة الثقة بين الناس ضرورية، خصوصًا في المناطق التي شهدت انقسامًا أو عنفًا أهليًا.
خاتمة: العودة الطوعية… مسؤولية الجميع
ليست العودة الطوعية حدثًا عاطفيًا فقط، بل فعلٌ سياسي وإنساني يتطلب التنسيق، والتخطيط، والرؤية الثاقبة والمتأنية. وهنا يجب أن تتحمل الدولة مسؤوليتها كاملة، بدعم من المنظمات الدولية والمجتمع المدني، لضمان عودة آمنة وكريمة ومستدامة.
حري بنا أن نقول إنه لا يكفي أن يعود الناس إلى بيوتهم.. يجب أن يعودوا إلى حياة تستحق أن تُعاش.
خاتمة مختصرة للنشر الإلكتروني:
العودة الطوعية ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها. ولكي تكون هذه العودة إنسانية بحق، يجب أن تُبنى على أسس الأمان، والعدالة، ودعم المجتمعات المنكوبة بكل ما يلزم للعيش بكرامة.
ونواصل..
المملكة المتحدة