عصام عباس
المتتبع للصراع السوداني المتطاول يلحظ أن استدعاء الماضي بات سمة متكررة في خطابنا الجمعي، لكننا كثيرًا ما نمارسه بصورة مشوّهة. إذ لا نستحضره لنتعلم منه أو لنعيد النظر في المظالم التي ارتبطت به، بل لنوظفه كأداة تبريرية لاستدامة العنف والانقسام وتفكيك الهوية الوطنية. إن الماضي، الذي يفترض أن يكون مصدرًا للحكمة والإلهام وقاعدة لفهم الحاضر وصياغة مستقبل أفضل، تحوّل في واقعنا إلى سلاح سياسي تُخاض به معركة سرديات متشابكة، تختلط فيها المظالم بالمزايدات، والتاريخ بالتوظيف الإيديولوجي، فتضيع فرص التعلم والمصالحة.
التاريخ كمرآة مشوهة
منذ أن نال السودان استقلاله، تراكمت في الذاكرة الجمعية صور من الإقصاء، والعنف، والانقلابات، والحروب الأهلية التي مزقت الهوية الوطنية الواحدة إلى هويات متناحرة. هذا الإرث الثقيل الذي لم تتم معالجته بصورة جذرية، بقي خاملاً في الوعي العام، ترتفع وتنخفض وتيرته مع الأحداث، ومتى وجد البيئة المناسبة ازدهر ونما، وعوضًا أن يكون درسًا للتعلم تحول إلى ذريعة لتبرير الصراع. كلما طوينا صفحة صراع نبقي بعضًا من بذوره الخبيثة في دواخلنا ونحافظ عليها من خلال مرويات وسرديات موروثنا الاجتماعي.
كل طرف من أطراف النزاع يستدعي الماضي حسب حاجته الآنية: الجيش يتحدث عن “الوحدة” مستندًا إلى ذاكرة دولة مركزية يرى أنها مهددة بفعل الثورات في الأطراف. بينما توظف قوات الدعم السريع خطاب “المظالم التاريخية” لأقاليم الهامش، وتستدعي صورًا من التهميش والعنصرية لتبرير العنف الذي تمارسه اليوم. وبينهما، تقف ذاكرة المدنيين مثقلة بخيانة المؤسسة العسكرية المتكررة لحلم الشعب السوداني في بناء دولته المدنية، متأرجحة بين الأمل في ثورة ديسمبر والخوف من إعادة إنتاج الاستبداد.
صناعة العدو من وحي الماضي
تُستخدم الذاكرة أيضًا في صناعة العدو السياسي والاجتماعي. فالخطاب السياسي في السودان بات يعتمد على تصنيف الخصوم لا على أساس برامج أو مواقف، بل على خلفياتهم التاريخية والجهوية والعرقية. يُعاد إنتاج صور نمطية عن “الجلابي المستبد”، أو “المتمرد الحاقد”، أو “الإسلامي المتآمر”، وهي صور تجد جذورها في أحداث حقيقية في التاريخ، لكنها تُنتزع من سياقاتها وتُضخَّم لتصبح أدوات تحريض وكراهية في الحاضر والمستقبل. والخطير في هذه الظاهرة ليس فقط في تكرار الماضي، بل في إعادة تدوير الكراهية كعنصر تعبوي، يتم من خلاله تثبيت الانقسام المجتمعي وتبرير الإقصاء والعنف. هكذا تتحول الذاكرة إلى منصة لشرعنة الأحقاد بدل أن تكون وسيلة لبناء الفهم المشترك أو مدخلًا للعدالة الانتقالية والمصالحات المجتمعية. إن توظيف الماضي بهذه الطريقة لا يصنع وعيًا، بل يُكرّس ضغائن، ويُضعف إمكانية بناء دولة تتسع لكل مكوناتها.
إعلام الذاكرة وأدلجة الماضي
تلعب وسائل الإعلام – الرسمية والموازية – دورًا خطيرًا في توجيه الذاكرة الجماعية. يتم تضخيم وقائع منتقاه بعناية وتجاهل أخرى، لرسم مشهد تاريخي منحاز يخدم طرفًا معينًا ويدعم فرضياته. فالمجازر تُروى من زاوية واحدة، والبطولات تُحتكر لفصيل دون آخر، ويتم اختزال تعقيد السودان في سردية “خيانة” أو “بطولة” أو “مؤامرة”.
تلعب وسائل الإعلام، سواء الرسمية منها أو تلك الموازية التي تنشط عبر المنصات الرقمية، دورًا بالغ الخطورة في تشكيل الذاكرة الجماعية وتوجيه إدراك الشعوب لماضيها. ففي السياق السوداني، كثيرًا ما يقوم الإعلام في إعادة إنتاج التاريخ بطريقة انتقائية، حيث يتم تضخيم وقائع بعينها، غالبًا ما تكون مواتية لطرف دون آخر، وتجاهل أحداث أخرى أو تحريفها، في محاولة لصياغة مشهد تاريخي مُشوّه يخدم رواية سياسية محددة.
يتجلى هذا التحيّز في الطريقة التي تُروى بها المجازر – من زاوية ضيقة أحادية تحجب الأطراف الأخرى – وفي الاحتكار الزائف للبطولة، حيث تُمنح صفة “المناضل” أو “الشهيد” لمكوّن معيّن دون سواه، بينما “الخائن” أو “الهالك” للآخر، ويتم طمس مساهمات أو تضحيات فئات أخرى. وبدلاً من تقديم التاريخ كفعل متعدد الأصوات والرؤى، يُختزل الواقع السوداني المعقد في سرديات تبسيطية تعتمد علي الثنائيات: “خيانة مقابل وطنية”، “بطولة مقابل تآمر”، أو “ضحايا مقابل جلادين”، دون الانفتاح على تعقيدات السياق وتداخل العوامل.
إن هذه الأدلجة الإعلامية للذاكرة لا تعيد فقط إنتاج الانقسام، بل تضعف فرص المصالحة والتعافي الوطني، إذ تُرسّخ لمظالم انتقائية وتُغلق أبواب الاعتراف المتبادل. في مجتمع يسعى للخروج من إرث الحرب والانقسام، تصبح الحاجة إلى إعلام نقدي، متوازن، ومتعدد الأصوات، أكثر من ضرورة، إنها شرط لبناء ذاكرة وطنية تُنصف الجميع ولا تستثني أحدًا.
ذاكرة بلا عدالة، حرب بلا نهاية
ما لم يتم الاعتراف بأن الذاكرة من دون مساءلة وعدالة هي وصفة لاستمرار العنف، فإن السودان سيظل يدور في حلقة مفرغة من الحرب. فالمصالحة لا تعني النسيان، بل تعني إعادة ترتيب الذاكرة بطريقة عادلة، تسمح للمجتمع بفهم ما حدث دون توظيفه في الصراع القادم. فبدلًا من أن تصبح المجازر والانتهاكات أوراق ضغط أو مبررات للعنف، يجب أن تُحوَّل إلى دروس، تُبنى على أساسها مؤسسات تضمن عدم تكرار الماضي.
نحو ذاكرة تحرر لا ذاكرة تُكبِّل
أختم بالقول إن معركة الذاكرة في السودان هي معركة على الحاضر والمستقبل. فإما أن نبقى أسرى لذاكرة تُستخدم لتبرير الإقصاء والعنف، أو نؤسس لذاكرة جديدة، ذاكرة اعتراف، وعدالة، وتعايش. وهذه ليست مسؤولية الدولة فحسب، بل مسؤولية المثقفين، والمؤرخين، ووسائل الإعلام، وقبل ذلك المجتمع نفسه. إن بناء وطن لا يعني نسيان الماضي، بل يعني تجاوزه بوعي، كي لا يتحول إلى لعنة تلاحق أجيال السودان القادمة.