من ثائر الاستقلال إلى مدبّر الانقسام

 

 

اسياس أفورقي.. الرجل الذي يلعب بالظلال 

 

بينما تنزف الجغرافيا السودانية دمًا ونزوحًا ودمارًا، يطلّ أسياس أفورقي من عزلته في أسمرة كمهندسٍ يُعيد رسم موازين القوى في السودان بما يخدم مصالحه الضيقة، متجاوزًا حدود بلاده الصغيرة.

 الرجل الذي قاد إريتريا نحو الاستقلال قبل أكثر من ثلاثة عقود، بدعم من الحركة الإسلامية السودانية، عاد ليناصبها العداء، ويستضيف معارضيها، ثم يعود لاحقًا ليتقاطع معها مجددًا، لا حبًا فيها بل لضمان موطئ قدم في المشهد السوداني المتشظي.

 

 *أسمرة.. موسم حج سياسي سوداني* 

تحولت العاصمة الإريترية في الأشهر الأخيرة إلى قبلة لوفود سودانية متنوعة: سياسيون من المجلس السيادي، قادة حركات مسلحة، رموز قبلية، وحتى نشطاء مدنيون. ورغم ترويج هذه اللقاءات كمساعٍ للمصالحة، إلا أنها تجري خارج علم الدولة السودانية، وتُستخدم غالبًا لتغذية الانقسام الجهوي، أو دعم تيارات بعينها.

يقول دبلوماسي رفيع من شرق إفريقيا لـ”أفق جديد:  “دور أفورقي في السودان مريب؛ فهو لم يطرح أي مبادرة لإنهاء الصراع، بل يبدو داعمًا لاستمراره رغم انتقاداته العلنية للقيادة السودانية”.

ويضيف:”كثير من القادة الأفارقة ينظرون بعين الريبة إلى دور إريتريا في السودان، خاصة أن أفورقي الذي اتهم الحركة الإسلامية بتهديد استقرار المنطقة، عاد لاحقًا ليمنحها الغطاء والدعم، مما يعكس تناقضًا في مواقفه يفضح نواياه الحقيقية”.

ووفقًا للمصدر ذاته، فإن أسمرة “لا تلتزم الحياد” كما تدعي، بل تلعب أدوارًا أمنية نشطة على حدودها مع ولايتي كسلا والقضارف.

 

 **عودة إلى مسرح القرن الإفريقي*  * 

تكشف الزيارات المتكررة من شخصيات سياسية وعسكرية وقبلية إلى أسمرة عن تحوّل نوعي في موقع إريتريا الإقليمي، بعد عزلةٍ طويلة، تعود لتلعب دورًا فاعلًا في توازنات القرن الإفريقي، مستخدمة السودان كورقة ضغط ومجال حيوي.

في أبريل 2025، جرت لقاءات سرّية بين قيادات من شرق السودان ومسؤولين إريتريين ناقشت “إدارة مناطق النفوذ”، ما أثار قلق الخرطوم، ودفع الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى زيارة أسمرة، حيث نقل مخاوفه لأفورقي، الذي نفى بدوره أية نوايا سلبية.

 

 *أطماع قديمة بثوب جديد :* 

 لم تكن الاطماع الإريترية بامتداد نفوذها في شرق السودان حدثا طارئا، ففي مطلع الألفية، تحدث أفورقي عن “تكامل طبيعي” بين كسلا والمجتمع الإريتري، واعتبر الحدود الاستعمارية غير ملزمة. 

واليوم، يعيد تدوير هذه الأطماع بوسائل أكثر تعقيدًا: التجنيس، التمويل، والتعبئة القبلية.

تقارير حقوقية في 2023 وثّقت محاولات أسمرة لتجنيس مئات السودانيين في الشرق، مقابل الولاء السياسي، وسط اتهامات بإشرافها على تدريب جماعات مسلحة سودانية.

 

 *معسكرات تدريب وصدي البنادق* 

يتنقل أفورقي بين شخصية رجل الدولة حين يناسبه، ورجل الاستخبارات حين يستلزم الأمر،وتفيد تقارير استخباراتية بأن أسمرة تدعم جماعات مسلحة في دارفور وشرق السودان، وتوفر لها معسكرات تدريب وممرات لوجستية.

 وتشير شهادات إلى وجود خمسة معسكرات تدريب على الأقل داخل إريتريا، يشرف على أحدها إبراهيم دنيا، الناشط المعروف في كسلا.

في مقطع نُشر في يناير 2025، أعلن دنيا تدريب دفعة أولى من “قوات تحرير الشرق”، وأظهر الفيديو متدربين يغنون بلغة التيغراي. رغم تجنّبه إعلان الولاء لأي طرف، تشير منشورات الحركة لدعم واضح للفريق البرهان.

 *نقطة تحول: من ثورة إلى شبكة امنية* 

يرى مراقبون أن تحركات أفورقي لا تصب في مصلحة السودان، بل تستهدف دعم قوى خارج مؤسسات الدولة، يمكن استخدامها كورقة تفاوض لاحقًا.

يقول شهاب إبراهيم، القيادي في التحالف السوداني، لـ”أفق جديد”: “التحركات الإريترية تأتي ضمن أطماع نفوذ سياسي، مستغلة انهيار مؤسسات الدولة لتشكيل ميليشيات تابعة للسلطات الأمنية في أسمرة”.

ويضيف: “إريتريا لم يكن لها دور فاعل في اتفاقيات السلام السابقة، باستثناء اتفاق شرق السودان، لكنها تسعى اليوم لتعويض غيابها ببناء مراكز قوة”.

بينما يقول حسام الدين حيدر، الأمين العام السابق لمجلس الصحافة والمطبوعات: إن لإريتريا ارتباطًا تاريخيًا مع شرق السودان والمكونات المسلحة فيه، لكنه يقر بأن التحركات الحالية تختلف عن سياقات الماضي.

 

أفورقي وكيل إقليمي؟

يرى بعض المحللين أن أفورقي لا يتحرك من فراغ، بل ينفذ أجندات قوى إقليمية، هدفها تقويض الدولة السودانية.

ويقول دبلوماسي أفريقي رفيع لـ”أفق جديد”: “أفورقي ينطلق من قناعة بأن استقلال إريتريا لا يكتمل دون تفكيك إثيوبيا وإضعاف السودان(…)وموقع بلاده بين دولتين كبيرتين يدفعه للشعور الدائم بالخطر”.

ويشير إلى تناقضات أفورقي في تحالفاته؛ فمن التعاون مع الإسلاميين والجبهة الثورية الإثيوبية، إلى محاربتهم لاحقًا، ثم العودة لاستخدامهم مجددًا كورقة ضغط.

لكن حسام حيدر يعارض هذا الرأي، ويؤكد أن موقف أفورقي المعلن في قمة دول الجوار بالقاهرة في سبتمبر 2023 كان واضحًا في رفضه للحركة الإسلامية ومليشياتها. 

ويرى أن علاقة أسمرة بالحركات المسلحة تقوم على مصالح أمنية قديمة وليست نوايا تفكيكية.

يقول الدبلوماسي الأفريقي إن النفوذ الإريتري تجاوز السياسة إلى تسليح مباشر للميليشيات. وأشار إلى تصريحات لرئيس الجبهة الشعبية المتحدة، الأمين داؤود، أكد فيها تلقي قواته دعمًا وتسليحًا من إريتريا وتدريبًا في معسكرات “ساوا”.

ويحذر الدبلوماسي من أن انتشار هذه الميليشيات في ولايات الشرق يخلق واقعًا أمنيًا خارج السيطرة الرسمية، ويعزز قاعدة “من يملك السلاح يملك التفاوض”، مما يهدد بظهور ولاءات خارج الدولة السودانية.

 

إعادة ضبط العلاقات: 

يتفق كل من شهاب، وحسام، والدبلوماسي الأفريقي، على ضرورة ضبط العلاقة مع إريتريا، ويقول شهاب:”مع استعادة السلام، يجب تحرير الإرادة الوطنية، وصياغة علاقات متوازنة مع دول الجوار وعلى رأسها إريتريا”.

ويشدد حسام على أن ضبط العلاقة لا بد أن يأخذ في الاعتبار الظروف التي نشأت فيها الحركات المسلحة ومصالحها، لمنع تدخلات مستقبلية مشابهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى