د. صلاح عمر
يتناول المقال مفهوم
العقل السياسي وموقعه في الأزمة السياسية، لأن العقل السياسي ليس قرارات متفرقة، بل طريقة تفكير منهجية تحدد كيف يُفهم الشأن العام والعلاقة بين الدولة والمجتمع، ويتكوّن عبر تراكمات تاريخية وثقافية، ويتأثر بالتحولات والوقائع المتغيرة.
لعبت الأيديولوجيات – يسارية وإسلامية – دورًا كبيرًا في تشكيل العقل السياسي بعد الاستقلال،ورغم ما قدمته من طاقة فكرية، إلا أنها تحولت إلى أدوات للشرعية السياسية والانغلاق الفكري، وغلب على الخطاب السياسي الجمود والعقائدية، وغابت البراغماتية، مما أعاق تأسيس عقل سياسي واقعي ومتوازن.
أدى تكرار الحكم العسكري إلى ترسيخ قناعة بأن الجيش طرف سياسي مشروع لحل الأزمات، مما أضعف الثقافة المدنية وزاد من هشاشة الاستقرار. العقل السياسي المتأثر بالعسكرية فقد الثقة في العملية الديمقراطية، وأصبح أسيرًا لفكرة الحلول القسرية والانقلابات، مما عمّق الأزمة السياسية والاجتماعية.
يخلص المقال إلى أن
العقل السياسي السوداني نتاج محددات تاريخية وثقافية معقدة، شكلته عوامل الاستعمار والهوية والانقلابات والحداثة المشوهة. وفي المقالات اللاحقة، يُنتقل للبحث في ملامحه التفصيلية، ثم ما يشبه عقل الثورة الصاعد، قبل أن تحاصره نزعة الحرب وتعيد تشكيله من جديد.
على حافة الأفق
العقل السياسي السوداني: تفكيك الأسطورة وإعادة البناء
تتبدى صورة العقل السياسي كمرآة تعكس فهمنا للسلطة والمجتمع والتاريخ، لسنا أمام وصفه جاهزة، بل أمام نمط ذهني معقد تشكل على امتداد التجربة البشرية في مواجهة الحكم التنظيم والخلاف، لكن ما الذي نعنيه حين نقول العقل السياسي؟ وكيف يكون مفتاحًا لفهم أزمتنا المتكررة.
العقل السياسي ليس مجموعة قرارات متفرعة، بل طريقة منهجية في رؤية الأشياء، ضد البنية الذهنية التي تحدد كيف نفكر في الشأن العام، وكيف نتصور العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين القانون والعرف، بين الدولة والمجتمع. قطعًا العقل السياسي في أي مجتمع لا يولد مكتملًا بل يتشكل عبر تراكمات من التاريخ، الثقافة، صدمات المجتمع، وكذلك من التأويل المستمر للواقع المتغير، وإذا نظرنا لتشكيل العقل السياسي نجد أن هناك عددًا من العوامل والمحددات أسهمت عبر التاريخ في تشكيله، ويمكن أن نعددها أدناه:
الإرث الاستعماري، أو مثل الحكم الثنائي تجربه استعمارية مركبة أنتجت دولة موروثة غير متجانسة من حيث البنية الاجتماعية والسياسية، وذلك من خلال اعتماده -أي الاستعمار- سياسة فرق تسد، إذ تعمق الانقسام بين الشمال والجنوب، وبين القبائل والأطراف، فأنشأ مناطق مغلقة، ومنع التعليم والتنقل بين بعض المناطق مما ساهم في تكريس عزلة ثقافية وتنموية بين جبهات البلاد .
كذلك شكل المستعمر جهاز دولة مركزي ذو طابع إداري صارم، لكنة مفصول عن القاعدة الاجتماعية، فانتقلت هذه الدولة المركزية البيروقراطية إلى ما بعد الاستقلال دون إصلاح يربطها بالمجتمع أو بدمج الأطراف في عملية صنع القرار، وأوجد الاستعمار أيضًا نخبة من المتعلمين في المدن، وخصوصًا في الوسط النيلي، وربطها بالإدارة مما عزز احتكار المركز للغرض والتمثيل السياسي، وخلق شريحة تدير الدولة بذهنية استعمارية لاحقاً، ومن جانب آخر شجع البيوتات الطائفية الدينية وتحديدًا طائفتي الأنصار والختمية على تأسيس أذرع سياسية لها، فولج حزبا الأمة والشعب الديمقراطي الحياة السياسية ممثلين لهاتين الطائفتين، مما جعل هناك خلطًا بين السياسة والطائفة، كما أن الاستعمار أهمل مسألة التنمية المتوازنة، فترك الجنوب، دارفور، جبال النوبة، وشرق السودان في حالة من التهميش الممنهج، مما جعل مشروع الدولة الوطنية لاحقًا يبدأ من قاعدة غير متكافئة.
الهوية والانتماء، عامل آخر من عوامل تشكيل العقل السياسي السوداني، إذ مثل سؤال الهوية واحدًا من أعقد الأسئلة التي واجهت الدولة السودانية منذ الاستقلال، إذ لم تحسم العلاقة بين الانتماءات الثقافية المتعددة (العربية، الأفريقية، الإسلامية، المسيحية، النيلية، الصحراوية وغيره )، كما أدى غياب مشروع وطني جامع للهوية إلى انقسام المجتمع إلى دوائر متصارعة من الولاء: الولاء العقلي، الولاء الديني، والولاء الجهوي مقابل ولاء الدولة. وكذلك جرى تضخيم الهوية العربية الإسلامية على حساب الهويات المحلية والإفريقية، مما أدى إلى شعور بالتهميش لدى مكونات مجتمعية كبرى خاصة في الهامش السوداني، وهذا أدى إلى فشل النخب السياسية في صياغة عقد اجتماعي يقوم على المواطنة المتساوية، واستمرت في استخدام الهوية كأداة تعبئة سياسية لا كأفق جامع، مما جعلها -أي الهوي- أداة إقصاء كما تم إبان فترة حكم نميري وتطبيق قوانين سبتمبر، وكذلك الخطاب الإسلاموي في فترة الإنقاذ، مما فاقم في هشاشة النسيج الوطني، وعلى إثر ذلك تنامت الحركات المسلحة مثل أنانيا، والحركة الشعبية، وحركات دارفور التي رفعت مطالب الهوية الثقافية والإثنية كأداة نضال ضد مركزية هوية الدولة، وعليه ظل العقل السياسي السوداني ممزقًا بين مركز يسعى لفرض هوية واحدة على الدولة وهامش يقاوم هذا الاحتكار، مما منع تشكيل هوية سودانية جامعة تبنى على التنوع لا الإنكار.
الحداثة المشوهة في العقل السياسي: ويعنى بها عملية دخول عناصر في الحداثة السياسية أو الاجتماعية أو التغذية إلى مجتمعنا، مما أنتج تحولات بنيوية وفكرية تعيد تشكيل طريقة التفكير أو آليات الحكم فتصبح الحداثة سطحية انتقائية أو محصورة في المظاهر لا في الجوهر، ولنا أن نعدد مظاهر الحداثة المشوهة في الآتي:
الانتقال الشكلي من التقليد إلى الحداثة، حيث استدعينا أدوات الدولة الحديثة (برلمان انتخابات، دستور، أحزاب) لكننا لم تحدث تغيرات جوهرية في مفاهيم مثل المواطنة، المحاسبة أو فصل السلطات، يمكن لنا أن نقارن بما تم في الهند آنذاك.
تبني مؤسسات حديثة دون عقل مؤسسي وتجلى ذلك في افتقار هذه المؤسسات من وزارات وبرلمانات بالأشخاص لا بالقوانين .
نخب “متمدنة” بلا تحديث معرفي، فكثير من السياسيين تلقوا تعليماً حديثاً في المدن أو الخارج لكنهم ظلو يتبنون منطقاً قبلياً أبوياً في الحكم.
الشكل الدستوري بلا مضمون، ما أكدته مجموعة الدساتير وتعديلاتها من الانتقالات السياسية، فكانت مجرد ترتيبات فوقية غالبًا ما تنقلب عليها القوى المسلحة أو النخب الحاكمة. مؤكد أن الحداثة المشوهة دفعت بتأثيرها على العقل السياسي وجعلته ذو ازدواجية في المرجعية، يتحدث السياسي بلغة المدينة والدولة الحديثة لكنه يمارس السلطة بمنطق الغنيمة والزعامة التقليدية، وظل يتأرجح بين الماضي والمستقبل. وأصبح من الصعوبة أن يؤسس لسياسات مستدامة لأن العقل السياسي يعيش انفصامات بين خطاب التحديث وممارسة الجمود. وكل هذا قاد إلى ضعف الثقة الشعبية، فالمواطن لا يثق في مؤسسات الدولة لأنها لم تؤسس على شرعية حقيقية بل على أشكال مزيفة.
الأيديولوجية السياسية:
وهي الأخرى لعبت دورًا مركزيًا في تشكيل العقل السياسي بعد الاستقلال، حيث هيمنت التيارات العقائدية الكبرى على المشهد السياسي، وأثرت في خطاب وممارسة النخب. وأولى التيارات الأيديولوجية في السياسة السودانية هي أيدولوجيا اليسار وتحديدًا الماركسية منها، ولعبت دورًا كبيرًا في عملية التنوير، واستهدفت جماعات بعينها، الطبقة العاملة، المزارعين والحركة الطلابية، واستطاعت أن تبني منابر قوية وسطها، ومن ضمن تيارات أيدولوجية اليسار كانت الحركة العربية القومية التي قتلها البعثيون والناصريون، ولم يكن انتشارهم مساوٍ لأيديولوجيا الحزب الشيوعي السوداني. وعلى وقع هذه أيديولوجيا جاءت أيديولوجيا الإسلام السياسي كترياق مضاد، ونجحت في الاستيلاء على السلطة من خلال انقلابها عام 1989، حيث أسست عقلية تقوم على احتكار الحقيقة، وهي صفة ملازمة للأيديولوجيا، ومنها سعت لأسلمة الدولة والمجتمع وتقويض المؤسسات المدنية والتشريعية، على الرغم من أن وجود الأيديولوجيا السياسية علي المشهد السياسي السوداني وافدة بالحيوية الفكرية، إلا أنها لم تسلم من الانقسامات لأنها استخدمت الأيدولوجيا كأداة للشرعية السياسية، وليس كمنهج تحليلي مرن، مما جعلها تنكفئ على ذاتها، وتتحول إلى مجموعات مغلقة لتنتج بدائل مقبولة للجميع – أي أنها أعاقت تشكيل عقل سياسي براغماتي واقعي يوازن بين المبادئ والمصالح وبين الثوابت الوطنية والتنوع المجتمعي .
الخبرة العسكرية والانقلابات، وهي الأخيرة في قائمة محددات تشكيل العقل السياسي التي ذكرناها، وهي لا شك ذات تأثير محوري، إذ أن المؤسسة العسكرية حكمت البلاد عقودًا عددًا فاقت الحكم المدني، وإن هي -أي المؤسسة العسكرية- حكمت بإيعاز أحزاب سياسية، ولكنها فرضت الجيش كسلطة سياسية، مما جعلها تخلق عقلًا سياسيًا يثق في القوى المدنية، وعليه أصبح الجيش السوداني يعتقد أن له الحق في التدخل في الشأن السياسي لحل الأزمات، حتى وإن كانت هذه الحلول العسكرية تؤدي إلى مزيد من الانقسام وعدم الاستقرار.
نخلص هنا إلى أن تشكيل العقل السياسي تم وفق هذة المحددات التاريخية ما أسفر عن ملامح له أصبحت ملازمة لتاريخه. وفي الحلقات القادمة نتحدث عن الملامح، وبعده عن عقل الثورة الذي بدأ ينمو ليفرض عليه عقل الحرب .