الزين عثمان
في قلب صحراء لا تعرف الرحمة، حيث ترقص الرمال على أنغام الريح، وتغيب الشمس كأنها تودع العالم إلى الأبد، تنتصب لافتة وحيدة مكتوب عليها “منطقة المثلث الحدودية”.
لا شيء هنا سوى الفراغ والهاجس، والوجوه التي عبرت دون أن تترك ظلًا، إنها الأرض التي لا يذكرها أحد إلا حين تصبح مسرحًا للحرب أو ممرًا للهروب، أو مقبرة مفتوحة للذين اختاروا الموت عطشًا على أن يبقوا في وطنهم الذي يحترق.
المثلث، ذاك الموضع المنسي في تقاطع الخرائط بين السودان ومصر وليبيا، صار فجأة في صدارة النشرات وخريطة النزاع.
صحراء كانت مأوى للحالمين بالذهب، وللهاربين من جحيم الوطن إلى سراب الأمان، أصبحت اليوم ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، وعنوانًا جديدًا لتمدد الحرب السودانية شمالًا، هنا، لا تسمع سوى أصوات الريح.. وأقدام الجنود، وصرخات الذين ضاعت أحلامهم في رمال لا تحفظ الذاكرة.
يقول عبد الرحمن، وهو شاب من الجزيرة، وأحد الهاربين من جحيم المثلث: “كنت أبيع الأمل في دكان صغير، وسط سوق منسيّ في آخر الدنيا… ثم جاءت الحرب، وسرقت كل شيء، حتى صوتي”.
الأربعاء، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على منطقة “المثلث”، الواقعة في قلب الصحراء كنقطة حدودية بين السودان وليبيا ومصر.
واتهم بيان صادر عن الجيش السوداني، قائد “الجيش الوطني الليبي” خليفة حفتر، بمساندة قوات الدعم السريع في هجومها للسيطرة على المنطقة، قبل أن يعلن الجيش لاحقًا سحب قواته منها لـ”ترتيبات دفاعية”.
نشرت قوات الدعم السريع مقاطع فيديو تؤكد سيطرتها على الموقع، وأتبعتها ببيان وصفت فيه ذلك بـ”الانتصار النوعي”، الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام مزيد من التمدد في جبهات جديدة. ووفقًا لتصريحات عبد الرحيم دقلو، نائب قائد قوات الدعم السريع، فإن الهدف القادم هو جبل “العوينات” والمناطق والمدن في الولاية الشمالية.
يقع مثلث جبل العوينات عند تقاطع حدود السودان مع مصر وليبيا، في عمق الصحراء الكبرى، ضمن منطقة نائية قاحلة، تضرب العزلة أطنابها فيها، حيث لا سكان ولا إغراء بالبقاء، ما جعلها مهملة من الدول الثلاث لعقود.
غير أن ثرواتها من الذهب والمعادن، وأنشطتها المتزايدة في التهريب وتجارة البشر والسلاح، جعلت منها نقطة جذب متعددة المخاطر.
في هذه الصحراء، وتحت لهيب الشمس والرياح الباردة، تنتصب بعض الخيام والمباني البسيطة، ولافتة مكتوب عليها “منطقة المثلث الحدودية”.
هنا تبدأ وتنتهي سلطة الدولة، حيث التمثيل الرمزي للجيش والاستخبارات، مقابل سيطرة ميدانية فعلية للقوات المشتركة من الحركات المسلحة، المتحالفة مع الجيش في حربه ضد الدعم السريع.
“المثلث” الذي لا يظهر على “رادار” معظم السودانيين، ظل لعقود بوابة للهجرة غير الشرعية نحو ليبيا، ومنها إلى أوروبا. كما أصبح مقصد آلاف الباحثين عن الذهب، ومحطة تجارية نشطة، تضج بعشرات المكاتب التي تعمل في الشحن بين السودان وليبيا، أو بين المثلث ومناطق البلاد المختلفة.
وقد ازدادت أهميته مع موجات النزوح الجديدة، إذ تحول إلى سوق كبير، يستوعب طالبي النجاة من الموت في السودان، والطامحين في حياة أخرى.
المنطقة التي كانت مهملة ومجهولة، صارت بالنسبة للبعض “دجاجة تبيض ذهبًا”، بسبب التنقيب والتهريب.
والمفارقة أن قوات الدعم السريع نفسها كانت تنشط هناك قبل الحرب، ثم ورثت نشاطها القوات المشتركة للحركات المسلحة، التي أصبح لها وجود واضح، وتحرك دائم بين المثلث ومدن الولاية الشمالية.
لكنها ووجهت باتهامات من السكان المحليين باستخدام موارد الإقليم لأجندات فئوية، ما دفع البعض للمطالبة برحيلها.
السيطرة الجديدة لقوات الدعم السريع على المنطقة تطرح من جديد أسئلة جوهرية حول مستقبل النزاع السوداني، خاصة مع تنامي أدوار اللاعبين الخارجيين.
فقد اتهمت الحكومة في بورتسودان خليفة حفتر بدعم الدعم السريع، بينما طالب آخرون الجيش المصري بالتدخل.
والسؤال الأخطر: هل تسعى قوات الدعم السريع إلى تكرار سيناريو السيطرة على مدن الولاية الشمالية؟ لكن وسط هذه الأسئلة، هناك وجوه أخرى للكارثة.
وصول الحرب إلى “المثلث” يعني دفنًا لأحلامٍ كثيرة تحت الرمال، مثل الشاب عبد الرحمن، القادم من أقاصي الجزيرة، الذي استثمر كل ما يملك في متجر صغير داخل سوق المثلث، ثم اضطر إلى تركه خلفه، ناجيًا بروحه.
كان عبد الرحمن بحسب حديثه لـ”أفق جديد” واحدًا من عشرات العاملين الذين طردتهم الحرب من المكان، بعد أن هجرتهم الصحراء أولًا ثم القتال لاحقًا.
ما رآه السودانيون بعد وصول الحرب إلى “المثلث” تجلى في صور وفيديوهات بثتها مواقع ليبية، تظهر كتيبة “سبل السلام” التابعة للجيش الليبي، بالتنسيق مع جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية بالكفرة، وهي تنقذ 85 مهاجرًا سودانيًا تركوا في عمق الصحراء دون طعام أو ماء لـثمانية أيام.
وفي مقاطع أخرى، ظهر مهاجرون يشكون من المعاملة السيئة التي تلقوها من القوات الموجودة هناك، بما في ذلك الاستغلال والتحقيقات القاسية.
لكن الأثر الأعمق لوصول الحرب إلى “المثلث” هو قطع طريق النجاة للهاربين من جحيم السودان نحو “الأمان النسبي” في ليبيا.
لم يعد أحد يجرؤ على عبور الـ18 ساعة بين “الخناق” في شمال السودان و”المثلث” على ظهر عربة مكشوفة.
يقول علي، أحد السائقين لـ”أفق جديد”: “لا مثلث بعد اليوم، من ذا الذي يسلم عربته للدعم السريع، ويخاطر بالموت عطشًا في قلب الصحراء؟”.
ويضيف: “قبل ذلك، كنا نشتري الأمان بالمال، أما الآن، فلا قانون ولا أمان. ربنا يعيد السلام… ساعتها تفتح الشوارع.”
في المقابل، صرح العقيد أحمد حسين مصطفى، الناطق الرسمي باسم القوات المشتركة، أن الدعم السريع لن يستطيع البقاء طويلًا في المثلث، وأن الهجوم كان محاولة للتغطية على هزائم متتالية. ونفى أن تكون المنطقة نقطة إمداد لقوات متحرك “الصياد” بالوقود، مؤكدًا أن “تحريرها” سيتم قريبًا.
لكن قسوة الطبيعة قد تكون أكبر عدو للبقاء، فمجرد الحصول على المياه في المثلث يحتاج إلى جهد كبير، وعزلة المنطقة تفاقمت بقطع الطريق الرابط بينها وبين مدينة الكفرة الليبية، التي كانت شريانًا لتهريب البشر والوقود والبضائع.
وهكذا، يعيد توقف الحركة تعريف “المثلث” لا كطريق للهروب، بل كنفق مظلم، لا بصيص نور في آخره.