دار الريح في مهب الحرب

أفق جديد

 

لم يكن أحد في “دار الريح” يظن أن يأتي يوم يرحل فيه الناس عن قراهم كما تقتلع الشجرة من جذرها.

 كانوا يستقبلون الصباح بين الحواشات وتحت ظلال القرب، يعيشون ببساطة الماء والتراب، ويعرفون الفزع حين ينادى لحماية قطيع أو رد سارق، لا للهرب من مدافع.

لكن الحرب لم تطرق الباب، بل اقتحمته، والذين لم يقتلوا برصاصة، فروا من العطش أو من صمت الأسواق التي نهبها الغرباء.

في قلب الريح، كانت النساء يخفين الخوف في حقائب الرحيل، والرجال يخبئون الكرامة تحت غبار الطريق.

وهناك، عند آخر منعطف من طريق الصناعات، ظلت الأسئلة تتردد: من أشعل الحرب؟ ومن يدفع الثمن؟ وهل يعود الناس حين لا يعود الأمان؟

 الحياد المصلوب على قارعة الطريق

لم يكن يخطر ببال سكان الشريط الريفي الممتد بين أم درمان وبارا أن يأتي عليهم يوم يجبرون فيه على مغادرة ديارهم، وفي جنح الليل، هم الذين اعتادوا أن تشرق الشمس عليهم وهم في “حواشاتهم”، بين الزراعة والرعي، المهن التي ورثوها أبًا عن جد، إلى جانب شيء من التجارة لتأمين متطلبات الحياة البسيطة، البساطة التي تشبههم، لم يكن يعكر صفو تلك الحياة سوى الخروج في “مسيرة فزع” لاستعادة ثرواتهم من “النهابة”.

ومنذ اندلاع الحرب، حاول سكان دار الريح، الواقعة في الشريط الريفي الممتد بين شمال كردفان وغرب أم درمان، التزام الحياد وتجنّب الانخراط في الصراع المسلح.

غير أن موقعهم الجغرافي، على امتداد طريق الصناعات الرابط بين بارا وأم درمان، جعل منطقتهم معبرًا رئيسيًا لتحركات قوات الدعم السريع، فقد استخدم الطريق لتمرير المقاتلين والإمدادات من غرب السودان نحو الخرطوم، كما شكل ممرًا للانسحاب عند تدهور الوضع العسكري في العاصمة.

لكن منذ إعلان الجيش تطهير ولاية الخرطوم من قوات الدعم السريع في مايو الماضي، يدفع سكان هذا الحزام المعروف شعبيًا بـ”دار الريح” فاتورة الحرب مضاعفة.

حرب لم يشعلوها، ولم يصغ أحد لصوتهم الرافض لها، لا صوت لهم اليوم إلا همس يتساءل: “هل من طريق يخرجنا من ظلمات الخوف والحصار إلى بعض الحياة؟”

 الفزع بدل التسليح المنظم 

ورغم تمسكهم بالحياد، ظلّ سكان دار الريح أوفياء لقيمهم المجتمعية التي ترفض الظلم والتعدي، فشكلوا لجانًا محلية للحماية والتدخل، مستندين إلى تقليد راسخ يعرف في الثقافة المحلية بـ”الفزع”، وهو نظام تضامني يستدعى فيه أبناء المجتمع للدفاع عن الممتلكات أو الأرواح عند وقوع الخطر.

ورغم طرح خيار التسليح في بعض النقاشات، اختار الأهالي عدم الانجرار إلى التسلّح المنظم، ومع ذلك، أدى الاعتماد على “الفزع” في بعض الحالات إلى احتكاكات مباشرة مع المسلحين، أسفرت عن سقوط ضحايا من أبناء المنطقة.

 الفرار من الأرض

عشرات الأسر غادرت قراها مؤخرًا في رحلة إلى المجهول، يقول علي يونس، أحد سكان قرية “المقة”: “لا يمكننا البقاء في الجحيم أكثر مما فعلنا. لم يعد هناك ما يُغري بالبقاء. إن لم تمت بالرصاص، فستموت عطشا.”

ويضيف في حديثه لـ”أفق جديد”: “الحصول على مياه الشرب يعتمد على الدوانكي التي تعمل بالطاقة الشمسية، وقد نهبت قوات الدعم السريع، في انسحابها من الخرطوم، محطات الطاقة، فأوقفت الآبار، ولم يعد أمامنا سوى الرحيل.”

ويستطرد يونس: “حتى المناطق التي لم تنهب بعد، لا يضمن أحد أنها لن تكون التالية، لا مكان آمن هنا، علينا أن نغادر لحماية أرواحنا.”

 الفرار من الجحيم إلى جحيم آخر

البقاء في قرى مثل أم أندرابة، جبرة الشيخ، أم قرفة، فضلِية، الطليح، وأولاد جموع، أصبح كمن يختار البقاء في الجحيم، فيما مغادرتها جحيم آخر.

فقد أغلقت الحرب طريق الصناعات الرابط بين أم درمان وبارا، وحولت الرحلة من ساعتين إلى يوم كامل أو أكثر.

وندرة وسائل النقل جعلت من “اللواري” القديمة وسيلة النجاة الوحيدة، بأسعار فلكية تفوق الخمسة ملايين جنيه للرحلة، عبر طريق وعر ينتهي بالناس في مدينة “الدويم”، ومنها يواصلون إلى أم درمان.

 فضيلة: القرية التي ابتلعتها الحرب

يقول الإعلامي علي الكردفاني لـ”أفق جديد”: “منطقتنا، فضلِية، لم تعد صالحة للحياة، تقع جنوب غرب بارا بنحو 18 كيلومترًا، وتبعد عن أم درمان حوالي 220 كيلومترًا، كانت ملاذًا وقت هجمات الدعم السريع ونهب الآبار، لكنها الآن خالية، ومن تبقى من سكانها إما نزح أو يستعد للمغادرة.

وأضاف: “فقدنا أبناء لنا برصاص المليشيا، التي نصبت خيمتها في قلب المنطقة.”

 دار الريح” تحترق

تحوّلت “دار الريح” – الاسم المتداول في المخيلة السودانية لهذه المنطقة – إلى ساحة مواجهة مشتعلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، التي زحفت غربًا بآلياتها وجنودها، حتى صارت صور الجحافل العسكرية مألوفة للعين.

التحولات الميدانية جعلت المنطقة خط الدفاع الأول عن بارا، ودرعًا لمنع تمدد المعارك نحو دارفور، وفق رواية الجيش.

وجود قوات الدعم السريع غير المنضبطة، والمتنافرة عرقيًا، حول المنطقة إلى حلبة صراعات داخلية بين عناصرها، وأخرى مع “الشفشافة” الذين يستغلون هشاشة الوضع الأمني، وصراعات مع الأهالي الذين يرفضون وجود المليشيا بين المدنيين.

تعرض السكان للتهجير القسري والتنكيل، مع تفشي النهب وتعطيل أسواق “أم دورور” المتنقلة، التي كانت شريان الحياة اليومي.

 السماء للدرون… والأرض للغُرباء

اضطرت المليشيات لاقتحام الجملونات لإخفاء عرباتها القتالية عن طائرات الجيش المسيرة، وكان آخر استهداف لها في منطقة فضلِية، التي أُفرغت من سكانها، ومن بقي فيها اعتصم في بيته، في انتظار ما يحمله الغد.

 لوري النجاة

اليوم، قرى خاوية، حواشات تنتظر من يهيئها للموسم المطير، متاجر مفتوحة على العدم، أسواق منهوبة، جنود يحملون بنادق بلا أمان، وسائق “لوري” ينهب الطريق نحو الدويم، حاملًا أسرًا وحقائب محشوة بالخوف.

وفي أحد الهواتف، تظهر رسالة من أحد “الدعامة”: “البلاد آمنة… عودوا لزراعتكم وبهائمكم.”

لكن امرأة تحتضن طفلها في قلب “اللوري” ترد:

“لا… لن نعود، المكان لا يتسع لنا وللحرب معًا.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى