السياسة والثقافة أمام مفترق المعنى الوطني في زمن الكارثة

 

عمر الدقير

(١)

كانوا ثلاثة إخوة، طاعنٌ أبوهم في السِّنِّ وقد أنهكه المرض طويلاً، ولم يُبدِ أيٌّ منهم عنايةً حقيقية بحالته، كأنهم سلّموا سلفاً بأنه ماضٍ إلى مصيره المحتوم. وحين دنا النزع الأخير هرعوا وتحلّقوا حول فراشه، فلما أسلم الروح باريها كان أول ما فكر فيه كل واحد منهم أن ينتحي بهاتفه جانباً ليسبق أخويه في إعلان خبر الوفاة، ويسبقهما في الاتصال بأمهم وإبلاغها به.. وهكذا، تحوّلت وفاة الأب إلى مُجرّد خبر يتنافسون على إعلانه بعد عمرٍ طويلٍ لم يتنافسوا خلاله على رعايته.

تلك القصة القصيرة ليست إلا استعارة لمأساتنا في السودان، حيث وقفت النخبة – في أغلبها – أمام أزمات الوطن وهي تتناسل وتتفاقم، لا كقوة مقاومة وحاجز صد بل كمنصة للظهور. لم تسعَ إلى الإنقاذ كما ينبغي، بل كانت كل كارثة فرصة لتسجيل موقف، أو إصدار بيان، أو كتابة مرثية؛ كأنها لحظة للتمايز بالأقوال، لا للمواجهة بالأفعال.

لكن السؤال الأعمق الذي تطرحه هذه المفارقة هو: ماذا يعني أن تكون سياسياً أو مثقفاً في لحظة احتضار جماعي؟ هل يليق أن تنصرف في خضم تلك اللحظة إلى الشجون الصغرى ومصالح الذات أو الحزب والصراع على أية مغانم يضعف فيها الطالب والمطلوب؟ وقبل ذلك، هل تنتظر الكارثة تقع لتشارك في إعلانها ووصفها، أم أن المثقف الحقيقي والسياسي الفاعل هو من يستشعر مقدمات الكارثة ونُذُرها ويقاومها قبل أن تتحوّل إلى واقع؟

المثقف أو السياسي لا تُقاس جدارته ببلاغته في توصيف الكارثة أو رثاء البلاد، بل بقدرته على تجنيبها لحظة الرثاء ذاتها. لأن من لا يستشعر نُذُر الكارثة أو يغمض عينيه ويصم أذنيه عنها، ولا يقاومها، ويكتفي بالصراخ فوق الركام، ليس مجرد شاهد عليها، بل شريكٌ فيها بتجاهله ولا مبالاته وصمته.

(٢)

النخبة ليست مجموعة كائنات فضائية خارج مدار مجتمعاتها، بل هي من نسيجها ذاته، تشكّلت وعياً وسلوكاً داخل بيئتها، ويعتريها ما يعتري بقية أفراد المجتمع من آمال وخيبات، وتتعرّض لما يتعرّض له سواها من طمعٍ وخوفٍ وغوايةٍ وإكراه.

ومن الضروري التنبيه إلى أن وضع النخبة في سلة واحدة وإصدار حكم جماعي عليها ليس عدلاً، لأنها ليست كتلة واحدة متجانسة. فالأفراد الذين يطلق عليهم مسمى النخبة – سواء كان ذلك عن جدارة أو زيفاً – هم امتداد لمصالح الطبقات التي ينتمون إليها، ويتباينون في منسوب الوعي والقدرة على تمثيل هموم مجتمعاتهم، مثلما يتفاوتون في درجة الانسجام مع الذات وتجسير المسافة بين الرأي والموقف.

وقد حوى سِجِّل التاريخ الإنساني، عبر مختلف الحقب والأمكنة، متباينة: فهناك من آثَر النجاة أو المغنم الذاتي على التزام جانب الحقيقة والثبات على الموقف الصحيح، وهناك من اختار الذهاب إلى مصيرٍ فاجع ثمناً لثباته على ما يراهُ حقّاً وصواباً، بينما اختار آخرون أن يحنوا رؤوسهم للعاصفة حتى تَمُر، مثل جاليلو الذي قال أمام القضاةِ والمحرقة: “الأرض ثابتة”، ثم هَمَس بما يُرضي ضميره: “لكنها تدور”.. والحال كذلك في السودان، حيث اختار بعض المثقفين والسياسيين السلامة أو المصلحة الذاتية على حساب المبدأ، وخذلوا شعبهم واصطفُّوا إلى جانب أنظمة الاستبداد. بعضهم سَخّر قلمه للدفاع عن تلك الأنظمة وتجميل قبحها وبعضهم أدّى القسم عضواً قي مؤسسات الزُّور والجَوْر المنبثقة عن سلطة الأنظمة نفسها، بينما انحاز آخرون إلى خندق شعبهم ومصالحه، لم يهزمهم ترهيب ولا ترغيب، ظلّت أقلامهم شاهدة على الألم ومواقفهم عصيّة على الترويض، رغم القمع والتنكيل. وهؤلاء هم من بقوا وميضاً في ذاكرة شعبهم، لا لأنهم انتصروا، بل لأنهم لم يخونوا واختاروا أن يدفعوا ثمن الكلمة والموقف، لا أن يقبضوا مقابلهما.

(٣)

الكارثة، في الغالب، لا تهبط فجأة، بل تتشكّل على مهل: إشاراتٌ تُهْمَل، ووقائع تُستَخف، وصمتٌ يبرر التصالح مع الواقع الغاشم بحجة أنه ليس بالإمكان أفضل مِمّا هو كائن .. وبين لحظة التغافل ولحظة الانفجار، يكون التواطؤ المعلن والمستتر قد فعل فعله.

وهنا يغدو التمييز بين نمطين من المثقفين ضرورة لا يمكن تجاهلها:

* المثقف المُمْتثِل لشروط الواقع، الذي ينفعل ولا يفعل، يتراجع ويعود من منتصف الطريق إذا شمّ رائحة زنزانة أو سمع رنين دنانير، أو ينكفئ على ذاته طلباً لنجاةٍ فردية هي في جوهرها أسوأ من الهلاك.

* والمثقف العضوي – حسب وصف غرامشي – الذي لا ينفصل عن مجتمعه، بل يتفاعل معه ويُعبِّر عن قضاياه – مستمداً شرعيته من وعيه لا من رضى السلطة السياسية أو مسايرة القطيع – وينهض لأداء دوره من منصة سلطة المعرفة، لا يرهبه استبداد سياسي أو غوغاء اجتماعية.

ولسنا هنا في وارد إطلاق لعنة جماعية على كل أطياف النخبة السودانية، فبينها من قاوم ودفع ثمن مواقفه، ومن ظلّ منحازاً لقيم التغيير رغم كل أشكال التضييق. لكن، في المحصلة النهائية، يصحُّ ما كتبه الدكتور منصور خالد عن “النخبة السودانية وإدمان الفشل”، لا لقلّة الشجعان بل لوفرة المتواطئين.. والدليل على ذلك لا يكمن فيما قيل أو كُتِب، بل ما انتهينا إليه في الواقع عبر سلسلة من الخطايا والخيبات حتى وصلنا لهذه الحرب التي خلّفت كارثة إنسانية غير مسبوقة، وعمّقت الانقسام السياسي والاجتماعي، ودمّرت البنية التحتية، ودفعت بالبلاد إلى حافة الانهيار الكامل والتفكك.

ففي لحظات مفصلية، مارست قطاعات من النخب تواطؤاً، ليس فقط بالاصطفاف العلني مع الاستبداد، بل في الصمت المريح، وتبرير خيارات عبثية تحت غطاء “الواقعية”، وتغييب الانحياز الأخلاقي لصالح حسابات ضيقة. كما حدث خلال مقاومة نظام البشير، حين علا خطابٌ يضع الناس أمام ثنائية بائسة: إما القبول باستبداد يضمن الاستقرار، أو السير نحو حرية تفتح أبواب الفوضى. وعندما قرر السودانيون انتزاع حريتهم من النظام المباد، لم تتوانَ قواهُ عن محاولات إشاعة الفوضى خلال الفترة الانتقالية لإثبات صحة تلك الثنائية، حتى بلغ بها الأمر أن أشعلت الحرب ذاتها التي طالما لوّحت بها كفزاعة.

وما زاد المشهد تعقيداً، بعد اشتعال الحرب، أن الفضاء العام تعرّض لتسميم ممنهج، عبر سيل من الأكاذيب، وخطابات التضليل، والسرديات التي تنزع المواقف من سياقاتها وتدين التفكير العقلاني المستقل عن فوهات البنادق .. تسلّل خطاب التخوين إلى كل زاوية، لا ليجادل الأفكار بل ليحاصرها ويعيد تأويل الوقائع وتقويلها ما يخدم الاصطفاف لا الفهم، كما يحدث الآن، حيث تُصَوَّر الدعوة لإيقاف الحرب على أنها تخاذل عن نصرة “معركة الكرامة” وتهديد لـ “بقاء الدولة”، رغم أن الواقع نفسه يصرخ بأن نتيجة هذه الحرب هي انتهاك كرامة السودانيين وتهديد وجود دولتهم.

(٤)

الآن، وقد بلغت الكارثة أعلى من ذروتها، لم يعد السلام مُجرّد شعار بتردد في المؤتمرات والبيانات السياسية، بل أصبح ضرورة وجودية تمسُّ حياة الناس في مدن الوطن المدمّرة، وقراه المهمَلة، ومعسكرات النزوح القاسية؛ كما بات شرطاً لبقاء الوطن موحّداً، وتماسك نسيجه الذي أصبح كالعِهْن المنفوش.

السودان اليوم ليس بحاجة إلى من يبلغ الأمَّ خبر موت الأب ثم ينصرف إلى صياغة حلول وسط تُرضي الأطراف المتصارعة على الميراث، بل إلى قطيعة معرفية وشجاعة سياسية لكسر القفل الذي يحتجز الوطن داخل مدارٍ مظلم، وفتح أفقٍ جديدٍ مُضاء.. وهذا الدور لا تنهض به السياسة وحدها ولا الثقافة بمفردها، بل يتحقّق عبر تحالف حيّ بين العقل الثقافي النقدي والفعل السياسي المسؤول؛ بين الحركة الثقافية التي تُضيء الطريق والحركة السياسية التي تسلكه بوعيٍ ونزاهة.. وحين تتصالح السياسة مع الثقافة في ساحة المصلحة العامة، لا في غرف المقايضة، يصبح الوطن ممكناً من جديد.

(٥)

الوقت الآن ليس لتشكيل حكومات تتنازع الشرعية الغائبة، وإنما لتوحيد الإرادة الوطنية لإيقاف الحرب ومعالجة الكارثة الإنسانية، والانخراط في حوار جماعي جاد ومسؤول لإعادة تعريف المعنى الوطني على أسسٍ جديدة ومشتركة، ولاستعادة الشرعية الحقيقية التي تُستمَد من التوافق لا من البنادق.. هذا المسار ليس مستحيلاً، لكنه – من جهةٍ أخري – لا يحتمل المزيد من التسويف والتأجيل، لأن كلّ لحظةٍ تَمُرُّ تُفاقِم الكارثة وتداعياتها على الوطن وأهله، وتجعل الوصول للحل المنشود أكثر تعقيداً وصعوبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى