العدالة على محك التاريخ: قراءة فكرية في جدلية الحوكمة وسيادة القانون في السودان

محمد عمر شمينا

في لحظة سودانية تتسم بالدمار والانقسام، لم يعد سؤال القانون ترفًا فكريًا، بل أصبح جوهر الصراع حول من يملك الحق في إعادة بناء الدولة، ومن يملك القدرة على إعادة تعريف العدالة. ليس القانون، في تجربتنا السودانية، أداة محايدة أو وسيطًا عادلًا فحسب؛ بل كثيرًا ما كان تجليًا للقوة، وذراعًا للهيمنة، سواء في يد الاستعمار أو في يد من ورثوه من نخب ما بعد الاستقلال.

من هذا المنطلق، قرأت تقرير “جدلية الحوكمة والعدالة: تصور وتطبيق سيادة حكم القانون في السودان” الصادر عن فِكرة للدراسات والتنمية، لا كمجرد وثيقة تحليلية، بل كمحاولة جادة لإعادة التفكير في أساسيات مشروع الدولة السودانية. التقرير لا يكتفي بالتشخيص المؤسسي، بل يذهب بعيدًا في مساءلة البنى النظرية والرمزية التي قام عليها القانون في السودان.

بين الحوكمة والعدالة: تفكيك الجدلية:

ينطلق التقرير من فرضية مركزية، مفادها أن العلاقة بين الحوكمة والعدالة ليست علاقة توافق دائم، بل علاقة توتر مشروع: فالحوكمة تسعى إلى الاستقرار، بينما العدالة لا سيما العدالة الانتقالية تسعى إلى المساءلة. وبين الاستقرار والمساءلة كثيرًا ما تتم التضحية بالأخيرة على مذبح الأولى.

التقرير يتعامل مع سيادة حكم القانون ليس كمعطى مؤسسي فقط، بل كمفهوم إشكالي متعدد الطبقات. يعرض مقاربات مختلفة لفهم هذا المفهوم:

مقاربة غائية ترى القانون وسيلة لتحقيق المساواة والعدالة وحقوق الإنسان،

ومقاربة مؤسسية تركز على وجود الهياكل التنظيمية،

وأخرى فقهية تسعى لضبط القواعد وتحديد آليات الإنفاذ.

لكن السؤال الجوهري الذي ظل يلازمني وأنا أقرأ هو: هل هذه النماذج كافية لتأسيس عدالة في بلد يعاني من إرث مركّب من العنف والقهر والتشظي؟ وهل نملك ترف الحديث عن مؤسسات دون أن نعيد طرح سؤال: ما العدالة؟ ولمن؟ وبأي أدوات؟

يركز التقرير على التعدد القانوني في السودان، بوصفه إحدى أكبر التحديات أمام سيادة حكم القانون: حيث تتجاور الشريعة، والعرف، والقانون العام، دون أن تتكامل فعليًا أو تُخضع لمرجعية موحّدة. هذه التعددية لا تُطرح في التقرير كعقبة تقنية، بل كواقع مركّب يتطلب وعيًا سياسيًا وأخلاقيًا، لا فقط إصلاحًا مؤسسيًا.

ينبه التقرير أيضًا إلى خطورة ما يسميه بـ (تفريغ سيادة حكم القانون من محتواها)، حين تتحول إلى مجرد مؤشرات أو مؤسسات شكلية لا تؤدي فعليًا إلى نتائج عادلة. وهذا، برأيي، هو ما يجعل بعض الخطابات الدولية حول بناء الدولة في السودان تبدو مبتورة أو حتى مخادعة: إذ يمكن للمؤسسة أن توجد، وللقانون أن يُطبّق، ومع ذلك يبقى الظلم مستمرًا إن لم تتغيّر البنية الرمزية للسلطة والعلاقات الاجتماعية.

هنا أجد نفسي مجبرًا على طرح سؤال يتجاوز التقرير:

هل يمكن استخدام أدوات الماضي لبناء مستقبل مختلف؟

لقد وُظّف القانون في السودان، تاريخيًا، لتعزيز الهيمنة: في يد الاستعمار البريطاني، وفي يد دولة ما بعد الاستقلال، ثم في يد النظم الأيديولوجية التي مزجت بين العقيدة والقانون والقوة. والنتيجة كانت أن العدالة ظلّت دومًا معلّقة، إما باسم “الشرعية”، أو “السيادة”، أو “الحفاظ على النظام”.

إن ما يحاوله التقرير، كما أفهمه، هو التمييز بين القانون بوصفه إطارًا قانونيًا مجردًا، وبين سيادة القانون بوصفها مشروعًا تحرريًا وعدالياً. وهذا فارق جوهري. فالأول قد يُخدم بالبيروقراطية، أما الثاني فلا يتحقق إلا بنقاش وطني جذري حول معنى العدالة، والسلطة، والمواطنة، وحقوق الضحايا، ومكانة القانون نفسه.

وأقولها بوضوح: لا توجد عدالة انتقالية حقيقية دون إعادة بناء الذاكرة الجمعية. لا يكفي أن نُنشئ محاكم، بل علينا أن نُعيد الاعتبار للفكرة التي من أجلها يُحاكَم المجرم وتُرد الحقوق للضحايا: فكرة أن القانون ليس حياديًا، بل يجب أن ينحاز  لا للفئة أو العقيدة، بل للحق.

حين نُقارن الحالة السودانية بتجارب أخرى مثل رواندا أو جنوب إفريقيا، نلاحظ أن التحوّل نحو سيادة القانون لم يكن مجرد مسألة إصلاح مؤسساتي، بل كان مشروعًا ثقافيًا ومجتمعيًا متكاملًا. في جنوب إفريقيا، لم يكن الدستور وحده هو ما حرر البلاد من الأبارتايد، بل النقاش العميق حول أي عدالة نريد؟ ومن يُعرّف الحقيقة؟ وفي رواندا، جرى توسيع نطاق العدالة لتشمل آليات محلية ومجتمعية (كـالغاتشاتشا) أعادت للضحايا صوتهم وهويتهم.

السودان، للأسف، لم يُجرِ هذا الحوار بعد. ما زالت النخب تتعامل مع العدالة كملف سياسي أو قانوني منفصل عن التجربة الحية للمجتمعات. ويبدو أن القطيعة التاريخية بين القانون الرسمي والقانون المجتمعي (العرفي، الثقافي، الأخلاقي) تتعمّق مع الزمن، لا العكس.

إن سيادة القانون الحقيقية في السودان لن تولد من تقارير أو مشاريع دعم خارجي فقط، بل من إعادة تأسيس أخلاقية للمجتمع القانوني والسياسي. وهذا ما يجعلني أقدّر التقرير حين يتحدث عن (التحوّل من دولة القانون إلى دولة حكم القانون)، لكنه يظل محتاجًا، برأيي، إلى إلحاح أكبر على البُعد الرمزي والوجداني للقانون، لا فقط المؤسسي.

فالحرية ليست نتيجة تلقائية لتطبيق القانون، بل هي شرط سابق له. لا معنى لسيادة حكم القانون إذا لم تكن هناك مواطنة قائمة على الندية، وهوية وطنية جامعة، ونخبة سياسية ترى نفسها خادمة للمجتمع لا وصيّة عليه.

إن قراءة تقرير (جدلية الحوكمة والعدالة) في هذا السياق ليست تمرينًا نقديًا فقط، بل مسؤولية أخلاقية وفكرية. لأنه يعيد تذكيرنا بأن بناء الدولة ليس فقط شأنًا هندسيًا أو مؤسسيًا، بل هو فعل ثقافي بامتياز، يقوم على إعادة تعريف العلاقة بين السلطة، والقانون، والعدالة.

وإنني أؤمن أن سيادة حكم  القانون في السودان ستبقى وهمًا، ما لم تصبح العدالة قيمةً نعيشها قبل أن نُشرّعها، ونسعى إليها باعتبارها مشروعًا تحرريًا قبل أن تكون أداة ضبط أو حوكمة.

أخيراً 

قد لا يُغيّر هذا المقال الواقع، لكن ربما يُسهم في خلق مساحة للتفكير خارج القوالب، وداخل الحلم السوداني الذي لم يُولد بعد.

Exit mobile version